مَنْ حوَّلَ الرَّمْلَةَ البيضاءَ آنِيَةً ....................... زرقاءَ صافيةً شَفَّافةَ الأُطُرِ؟
هُمْ عاشقوكِ إِذا ما شَبَّ يافِعُهُم ............. كانَ الشُّموخَ وكانَ الغارَ في الغُرَرِ
وقلتُ في الثانيةِ:
فخَّارُها يَرْوي حكايةَ مَجْدِها ....................... وَيُضيءُ ليلَ المُدْلِجينَ زُجاجُ
قولُهُ: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} هُوَ ما يُسَمَّى فِي فَنِّ عِلْمِ الْبَدِيعِ بِتَشَابُهِ الْأَطْرَافِ وهو أَعَادَةُ لَفْظِ "الزُّجاجَةُ" لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَرْكَانِ التَّمْثِيلِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ تَمْدَحُ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفٍ الثَّقَفيَّ:
إِذا أَنْزَلَ الْحَجَّاجُ أَرْضًا مَرِيضَةً ....................... تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ................... غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا
فقد أَعَادَتْ الشَّاعِرةُ ليلى الأخيلِيَّةُ كَلِمَةَ "شَفاها" لِأَنَّ المُعَوَّلَ عَلَيْهِ هوَ شِفاءُ الأرْضِ مِنْ مَرَضِها العُضالِ، أَلا وَهوَ وُجُودُ العُصاةِ عَلَيْهَا، الخارجينَ عَلَى أَمْرِ أَميرِ المُؤمنينَ. وفي الآيةِ فإنَّ المُعَوَّلَ عَلَيْهِ في التمثيلِ هُوَ الزُّجاجةُ التي ينبعِثُ منها النُّورُ.
وَالْكَوْكَبُ: هُوَ "النَّجْمُ"، وَالدُّرِّيُّ ـ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ، فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَاحِدُ الدَّرَارِيِّ، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّاطِعَةُ الأَنْوارِ كعُطاردَ وَالزُّهَرَةِ وَالْمُشْتَرِي، ونُسِبَتْ إِلَى الدُّرِّ فِي بَيَاضِهِ وتأَلُّقِهِ وَصَفَاءِ لَوْنِهِ، فَالْيَاءُ هُنَا هِيَ يَاءُ النِّسْبَةِ، أَيْ نِسْبَةُ الْمُشَابَهَةِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ يَصِفُ نَاقَتَهُ:
جَمَالِيَّةٌ وَجْنَاءُ تَردي كَأَنَّها ............................. سَفَنَّجَةٌ تَبْرِي لِأَزعَرَ أَرْبَدِ
"جَمَالِيَّةٌ" أَيْ: كَالْجَمَلِ فِي قوَّتِها وَاتِّثَاقِها وَعِظَمِ جُثَّتِها. و "وَجْنَاء": عظيمةُ الوَجْنَتَيْنِ، كناية عَنْ سِمنها واكْتِنازِ لحمِها، و "تَردي": تعْدُو، و "السَّفَنَّجَةُ": النَّعامةُ، والأَزْعَرُ: ذَكَرُ النَّعامِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: وَرْدِيُّ اللَّوْنِ، أَيْ بلَوْنِ الْوَرْدِ. وَقَالُوا فِي الْمَثَلِ: "بِتُّ بأَحْزَانٍ يَعْقُوبِيَّةٍ"، يُريدونَ: بِأْحْزانٍ كأَحْزانِ يَعْقوبَ على ابْنِهِ يوسُفَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وفي مقامات الْحَرِيرِيُّ "الْمَقَامَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قالَ: "فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ نَابِغِيَّةٍ". يُريدُ بلَيْلَةٍ شديدةِ الخَوْفِ كَالَّتِي ذَكَرَها النَّابِغَةُ الذُّبيانيُّ فِي قَوْلِهِ:
فَبِتُّ كَأَنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِيلَةٌ ...................... مِنَ الرُّقْشِ في أَنْيابِها السُّمُّ ناقِعُ
تَنَاذَرَها الرّاقُونَ من سُوءِ سمِّهَا ........................ تُطَلِّقُه طَوْرًا وطَوْرًا تُرَاجِعُ
يُسَهَّدُ في لَيْلِ التِّمامِ سَليمُها ....................... لِحَلْيِ النّساءِ في يَدَيْهِ قعاقِعُ
"الضَّئيلةُ": الأفعى الدَّقيقةُ. وَالدُّرِّ يُضْرَبُ بهِ المَثَلُ في الْإِشْرَاقِ وَالصَّفَاءِ. ومن ذلكَ قَولَ الشاعرِ لَبِيَدِ بْنِ ربيعةَ العامريُّ يَصِفُ بَقَرَةً وَحْشَيَّةً:
باتَتْ وَأسْبَلَ واكفٌ مِنْ دِيمَةٍ .................... يَرْوِي الخمائلَ دائمًا تِسْجَامُهَا
وَتُضِيءُ فِي وَجْهِ الظَّلَامِ مُنِيرَةً ...................... كَجُمَانَةِ الْبَحْرِيِّ سُلَّ نِظَامُهَا
وَقِيلَ: "الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ": هوَ اسْمٌ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ، وَيُطْلقُ عَلَى كَوْكَبِ الزُّهَرَةِ، أَحَدِ الكَوَاكِبِ السَّبْعةِ السَّيَّارةِ.
وَإِنَّمَا سَلَكَ طَرِيقَ التَّشْبِيهِ والتمثيلِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ شِدَّةِ صَفَاءِ الزُّجَاجَةِ لِأَنَّهُ أَوْجَزُ لَفْظًا وأقْصَرُ طريقًا، وَأَبْيَنُ وَصْفًا، وأَقربُ للأفهامِ. وَهَذَا تَشْبِيهٌ مُفْرَدٌ فِي أَثْنَاءِ التَّمْثِيلِ، وَلَا حَظَّ لَهُ فِي التَّمْثِيلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ" قَالَ: يَعْنِي الزُّهْرَةَ، ضَرَبَ اللهُ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ مِثَلَ ذَلِكَ النُّورِ، يَقُولُ: قَلْبُهُ نًورٌ، وَجَوْفُهُ نُورٌ، وَيَمْشِي فِي نُورٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ" قَالَ: ضَخْمٌ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العلاءِ، وَالْكِسَائِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: "دِرِّيءٌ" ـ بِكَسْرِ الدَّالِّ وَمَدِّ الرَّاءِ، عَلَى وَزْنِ "شِرِّيبٍ"، وهَوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الدَّرْءِ، الَّذي يعني الدَّفْعَ، وذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِضَوْئِهِ الظَّلَامَ، وقيلَ لِأَنَّهُ ـ فِيمَا يَتَخَيَّلُهُ الرَّائِي، يَدْفَعُ بَعْضُ شُعَاعِهِ بَعْضًا.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ "دُرِي" بِضَمِّ الدَّالِّ وَمَدِّ الرَّاءِ، عَلَى وَزْنِ "فُعِيلٌ" وَهُوَ مِنَ الدَّرْءِ أَيْضًاـ وَهُوَ وَزْنٌ نَادِرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، لَكِنَّهُ مِنْ أَبْنِيَةِ كَلَامِهِمْ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَمِنْهُ "عُلِّيَّةٌ" وَ "سُرِّيَّةٌ" وَ "ذَرِّيَّةٌ" وكُلُّها بِضَمِّ الْأَوَّلِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنعانيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ: "كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ" قَالَ: مُنِيرٌ يُضِيءُ.
قَوْلُهُ: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} الْإِيقَادُ: مَعْنَاهُ وَضْعُ الْوَقُودِ عَلَى النَّارِ، وَهُوَ مَا يُزَادُ فِي النَّارِ الْمُشْتَعِلَةِ لِيَقْوَى لَهَبُهَا، وَهُنَا أُرِيدَ بِهِ مَا يُمَدُّ بِهِ الْمِصْبَاحُ مِنَ الزَّيْتِ زيادةً على مَا فِيهِ لِيَبْقَى مُشْتعِلًا. وَقدْ جاءتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ الكريمةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِـ "مِصْباحٌ".
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ "يُوقَدُ" بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٌ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ وَبِفَتْحِ الْقَافِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، أَيْ يُوقِدُهُ الْمُوقِدُ. فَتكونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ "مِصْباح".
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٍ: "تَوَقَّدُ" بِفَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَبِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مَفْتُوحَةً، وَرَفْعِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ "تَوَقَّدَ" حُذِفَتْ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَأَصْلُهُ "تَتَوَقَّدُ" عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ، أَوْ حَالٌ مِنْ مِشْكَاةٍ، أَوْ مِنْ زُجاجَةٍ، أَوْ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ، وَهِيَ مِشْكَاةٌ وَمِصْبَاحٌ وَزُجَاجَةٌ، أَيْ تُنِيرُ. وَإِسْنَادُ التَّوَقُّدِ إِلَيْهَا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ مِثْلَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَمَنْ مَعَهُ، لَكِنْ بِفَتْحِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلُ مُضِيٍّ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ لِمِصْبَاحٍ.
وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ ـ بحسَبِ قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِينَ، إِفَادَةُ تَجَدُّدِ إِيقَادِهِ، أَيْ لَا يُذْوَى وَلَا يُطْفَأُ. وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَمَنْ مَعَهُ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ إِفَادَةُ أَنَّ وَقُودَهُ ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ.
وَوَصَفَ الزَّيْتُونَةَ بِالْمُبَارَكَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ كَثْرَةِ النَّفْعِ فَإِنَّهَا يُنْتَفَعُ بِحَبِّهَا أَكْلًا وَبِزَيْتِهَا كَذَلِكَ وَيُسْتَنَارُ بِزَيْتِهَا وَيَدْخُلُ فِي أَدْوِيَةٍ وَإِصْلَاحِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ. وَيُنْتَفَعُ بِحَطَبِهَا وَهُوَ أَحْسَنُ حَطَبٍ لِأَنَّ فِيهِ الْمَادَّةَ الدُّهْنِيَّةَ، قَالَ ـ تَعَالَى، عَنْهَا: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} الآيةَ: 20، مِنْ سُورَةِ "الْمُؤْمِنُونَ"، وَيُنْتَفَعُ بِجَوْدَةِ هَوَاءِ كُرُومِهَا، حَيْثُ أَنَّها تُنَقِّي الهواءَ مِنَ الغازاتِ الضارَّةِ، كغازِ الفحْمِ، إذْ تَسْتعمِلُهُ أَوراقها الكَثيفَةُ الكثيرةُ في عمليَّةِ التَمْثِيلِ اليَخضوريِّ، معَ أشِعَّةِ الشَّمسِ والنُسْغِ الَّذي تَمْتَصُّهُ جُذُورُها مِنَ الأرضِ، فتحَضِّرُ المادَّةَ الصالحةَ لتغذِيَةِ الشجرةِ، كما قالَ علماءُ النَّباتِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ بَرَكَتَهَا لِأَنَّهَا مِنْ شَجَرِ بِلَادِ الشَّامِ وَالشَّامُ بَلَدٌ مُبَارَكٌ مِنْ عَهْدِ أَبي الأنبياءِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ الأنبياءِ: {وَنَجَّيْناهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ} الْآيَةَ: 71، يُرِيدُ أَرْضَ الشَّامِ. بَلْ وأَقْسَمَ اللهُ بها تَعْظِيمًا لِشَأْنِها فَقَالَ: {والتَّينِ والزَّيْتونِ * وطُورِ سِينِينَ * وهَذا البَلَدِ الأَمِينِ)، الآيات: (1 ـ 3) مِنْ سُورَةِ التِّينِ فَقَالَ العارفونَ: أَقْسَمَ اللهُ ـ تَعَالَى، بأَحَبِّ أَنبيائهِ إليْهِ: فـ "التِينَ والزَّيتونِ" إكرامًا لسيِّدنا عيسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لأَنَّها تَنْبُتُ في بلادِ الشَّامِ مَهْدِهِ ـ علَيْهِ السَّلامُ، و "طُورِ سينينَ" إكْرامًا لسيِّدِنا مُوسَى عليْهِ السَّلامُ، فذكَرَ اسمَ الجَبَلِ الذي تَجَلى لَهُ وَنَاجَاهُ عَلَيْهِ، "وَهذَا البَلَدِ الأَمِينِ" مَكَّةُ المُكَرَّمةُ بلدُ أَحَبِّ خلْقِهِ إِلَيْهِ وهو سيِّدُنا مُحَمَدٌ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهكذا شؤونُ المَحَبَّةِ والمُحبين، فقد قَالَ مجنونُهم:
أَمُرُّ على الدِّيارِ ديارِ ليلى .......................... أُقَبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حُبُّ الدِّيارِ شَغَفنَ قلبي ...................... ولكنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيارا
وقالَ آخَرُ:
حتى الكلابُ إذا مَرَّتْ بِحَيِّهِمُ .................... فإنَّ حُبِّي لها يا صاحِ قدْ وَجَبا
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ شَريكِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: ضُفْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، لَيْلَةً فَأَطْعَمَني كُسُورًا مِنْ رَأْسِ بَعيرٍ بَارِدٍ، وَأَطْعَمَنَا زَيْتًا، وَقَالَ: هَذَا الزَّيْتُ الْمُبَاركُ الَّذِي قَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنِدِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ عَنْ أَميرِ المُؤمنينَ عُمَرَ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ، وادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ: (1851)، وَابْنُ مَاجَهْ: (3319)، والحاكمُ: (4/122)، والطَّحَاوِيِ في "المُشْكِل": (4450)، وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ البُخَارِي وَمُسْلِمٌ. وأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَاقِ في "جامِعُ مُعَمَّر" المُلْحَقِ بِمُصَنَّفِهِ: (19568)، عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ.
وأَخرجَ الأئمَّةِ، عن أُسَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَوْ أَبي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ: (3/497)، والدَّارِمِي: (2/102)، والبُخَارِي في "التَّاريخُ الكَبِيرُ" في "الكُنَى" ص: 6، والتِّرْمِذِيُّ: (1852)، والنَّسَائِيُّ في "الكُبْرَى": (6702)، والحاكِمُ في المُسْتدركِ: (2/397)، وَالبَغَويُّ في تفسيرِهِ: (3/417) وَهُوَ في "شَرْحِ السُّنَّةِ": (2864) بهذا الإسناد. وأخرجَهُ أيضًا الدولابي في "الكُنَى": (1/15).
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبُ الإيمانِ" عَنِ السِّدَةِ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهَا ذُكِرَ عِنْدَهَا الزَّيْتُ فَقَالَت: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَأْمُرُ أَنْ يُؤْكَلَ وَيُدَّهَنَ وَيُسْتَعْطَ بِهِ، وَيَقُولُ: ((إِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ)).
وَعَلَيْهِ فوَصْفُ الزَّيْتُونَةِ بِالـ "مُبارَكَةٍ" وَصْفٌ كَاشِفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا مُخَصِّصًا لِـ "زَيْتُونَةٍ"، أَيْ: شَجَرَةٍ ذَاتِ بَرَكَةٍ، والبَرَكةُ تعني الوَفْرَةَ والنَّمَاءَ وَكَثْرةَ الثِّمارِ فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفِ إنَّما جِيءَ بِهِ لِتَحْسِينِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وبالتَّالي تَحْسِينِ الْمُشَبَّهِ، وَمِثْلُهُ فِي الشِّعْرِ قَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، مادِحًا سيِّدَنا رَسُلَ اللهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ ظَعَنُوا ............... إِلَّا أَغَنٌّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ ................ كَأَنَّهَا مُنْهَلٌّ بِالْكَأْسِ مَعْلُولُ
شَجَّ السُّقَاةُ عَلَيْهِ مَاءَ مَحْنَيةٍ ................. مِنْ مَاءِ أَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ
تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ................. مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٍ يَعَالِيلُ
فَقد أَجْرَى عَلى المَاءِ الَّذي هُوَ جُزْءٌ مِنَ المُشَبَّهِ بِهِ صِفَاتٍ لَا أَثَرَ لَها في التَّشْبيهِ. فَإِنَّ قَوْلَهُ، "وَأَفْرَطَهُ .. إِلَخْ". لَا يَزِيدُ الْمَاءَ صَفَاءً، وَلَكِنَّهُ حَالَةٌ تُحَسِّنُهُ في مَسامِعِ السَّامِعينَ.
قولُهُ: {زَيْتُونَةٍ} لقد ذُكِرَتِ الشَّجَرَةُ المُباركةُ هنا بِاسْمِ جِنْسِهَا، ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهُ قولُهُ: "زَيْتُونَةٍ"، وَهُوَ اسْمُ نَوْعِهَا، وذلكَ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ اهْتِمَامًا بِتَقَرُّرِ ذَلِكَ فِي الذِّهْنِ.
قَوْلُهُ: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أَيْ: إِنَّ هَذِهِ الزَيْتُونَةَ في مكانٍ وَسَطٍ بينَ الجِهَتيْنَ، جِهَةِ الشَّرْقِ وَجِهَةِ الْغَرْبِ، فَقد نُفِيَ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ في جهَةِ الشَرْقِ كما نَفَى أَنْ تَكُونَ في جَهَةِ الغَرْبِ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ الْمَعْنَى لَا صَرِيحُهُ. فقد دَخَلَ حَرْفُ "لَا" النَّافِيَةِ فِي كِلَا الْوَصْفَيْنِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ هِجَاءٍ مِنَ الْكَلِمَةِ بَعْدَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِ إِعْرَابِ نَظِيرِ (أَلْـ) الْتَّعْريفِ الَّتِي أَلْغَزَ فِيهَا الدَّمَامِينِيُّ حينَ قَالَ:
حَاجَيْتُكُمْ لِتُخْبِرُوا مَا اسْمَانِ .............................. وَأَوَّلُ إِعْرَابِهِ فِي الثَّانِي
وَهْوَ مَبْنِيٌّ بِكُلِّ حَالٍ .................................... هَا هُوَ لِلنَّاظِرِ كَالْعِيَانِ
لِإِفَادَةِ الِاتِّصَافِ بِنَفْيِ كُلِّ وَصْفٍ، وَعَطْفٍ عَلَى كُلِّ وَصْفٍ ضِدِّهِ، لِإِرَادَةِ الِاتِّصَافِ بِوَصْفٍ وَسَطٍ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ الْمَنْفِيَّيْنِ، لِأَنَّ الْوَصْفَيْنِ ضِدَّانِ، وهذا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ إِذْ قالوا: "الرُّمَّانُ حُلْوٌ حَامِضٌ". وَالْعَطْفُ هُنَا في هَذِهِ الآيَةِ الكريمةِ هوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، كَما هوَ في قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ النِّسَاء: {لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ} الآيةَ: 143، وَكَقَوْلِ الْمَرْأَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ الَّذي أخْرجَهُ الإمامُ البُخاريُّ وغيرُهُ مِنْ حَديثِ أُمِّ المُؤمنينَ السيِّدَةَ عائشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، قَالَتْ: "جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا.
قَالَتْ الْأُولَى: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ، غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لَا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى، وَلَا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ.
قَالَتْ الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لَا أَبُثُّ خَبَرَهُ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَهُ، إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ.
قَالَتْ الثَّالِثَةُ: زَوْجِي الْعَشَنَّقُ، إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ.
قَالَتْ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ، وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ.
قَالَتْ الْخَامِسَةُ: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ.
قَالَتْ السَّادِسَةُ: زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ، وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِنْ اضْطَجَعَ الْتَفَّ، وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ، لِيَعْلَمَ الْبَثَّ.
قَالَتْ السَّابِعَةُ: زَوْجِي غَيَايَاءُ، أَوْ عَيَايَاءُ، طَبَاقَاءُ كُلُّ دَاءٍ، لَهُ دَاءٌ شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ، أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ.
قَالَتْ الثَّامِنَةُ: زَوْجِي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ.
قَالَتْ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ النَّادِ.
قَالَتْ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكٌ، وَمَا مَالِكٌ؟. مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ، قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ، وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ، فقد أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ.
قَالَتْ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ وَمَا أَبُو زَرْعٍ، أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ، أُذُنَيَّ وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ، وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ، فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ، وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ، أُمُّ أَبِي زَرْعٍ فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ، عُكُومُهَا رَدَاحٌ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ، ابْنُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ، مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ، وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ، بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ، طَوْعُ أَبِيهَا وَطَوْعُ أُمِّهَا، وَمِلْءُ كِسَائِهَا وَغَيْظُ جَارَتِهَا، جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ، لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا، وَلَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا، وَلَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا.
قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالْأَوْطَابُ تُمْخَضُ، فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا
كَالْفَهْدَيْنِ، يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ، فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا، رَكِبَ شَرِيًّا، وَأَخَذَ خَطِّيًّا، وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا، وَقَالَ كُلِي أُمَّ زَرْعٍ وَمِيرِي أَهْلَكِ، قَالَتْ: فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ، قَالَتْ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنها: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يا عائشَ كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْع)). فَقَالَتْ السيِّدَةُ عَائِشَةُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ أَنْتَ خَيْرٌ إِلَيَّ مِنْ أَبِي زَرْع). صَحيحُ البُخَارِيِّ برقم: (5189)، ومُسْلِمٌ بِرَقَم: (6458)، والتِّرمِذي في "الشَّمَائِلِ: (253)، وَالنَّسائيُّ في "الكُبْرى": (123 ـ ا)، وَالطبراني برقم: (18789). والشَّاهِدُ فيهِ قولُ الرابِعةِ: "زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرٌّ وَلَا قَرٌّ"، أَيْ: وَسَطًا بَيْنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرَانِ الْمَنْفِيَّانِ مُتَضَادَّيْنِ فَإِنَّ نَفْيَهُمَا لَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ نَفْيِ وُقُوعِهِمَا كَما قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الواقعةِ: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} الْآيَتانِ: (43 و 44)، وَكَقَوْلِ الْمَرْأَةِ الْأُولَى مِنْ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ المُتَقَدِّمِ: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ. وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فِي عَطْفِ نَفْيِ الْأَسْمَاءِ، وَأَمَّا عَطْفُ الْأَفْعَالِ الْمَنْفِيَّةِ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، كقولِهِ ـ تَعَالى جَدُّهُ، في الْآيَةِ: 31، مِنْ سُورَةِ "القِيامَةِ": {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى}، وَكَقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، مِنْ حَدِيثِ المَرآةِ التي دَخَلَتِ النّارَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها: فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا، ولاَ هِيَ أَطْلَقَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ: (2/159 ، 188)، وَالبُخارِيُّ: (6/409)، في كِتَابِ "بِدْءُ الخَلْقِ" وفي "الأَدَبُ المُفْرَدَ" (115) (379)، وَمُسْلِمٌ: (4/1760) في كتاب "السَّلام"، وَابْنُ حِبَّانَ: (2/305) كِتابُ "البِرُّ والإِحْسَانَ، والدَّارِمِي في كتاب "الرِّقاق" مِنْ سُنَنِهِ: (2/330 ـ 331) وَالبَيْهَقِيُّ: (5/214).
وَلَمْ يَرِدْ هَذَا إِلَّا فِي النَّفْيِ بِـ "لَا" النَّافِيَةِ، وَلِذَلِكَ اسْتَقَامَ لِلْحَرِيرِيِّ أَنْ يُلَقِّبَ شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ بِلَقَبِ "لَا وَ لَا" فِي الْمَقَامَةِ السَّادِسَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ مقاماتِهِ، حيثُ قال: "بُورِكَ فِيكَ مِنْ طَلَا. كَمَا بُورِكَ فِي لَا وَلَا"، يُريدُ: فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِهَا: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ.
وَالأَرْجَحُ أَنْ يَكُونَ المُرادُ بـ : "لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ" أَنَّهَا فِي مَوْضِعٍ بَيْنَ شَرْقِ بِلَادِ الْعَرَبِ وَغَرْبِهَا، أَيْ: بِلَادِ الشَّامِ. لِأَنَّها أَصْلَ مَنْبَتِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ جِهَةَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مِنْ بَيْنِ مَا يَحُفُّ بِهَا مَنْ شَجَرِ الزَّيْتُونِ مَوْقِعٌ غَيْرُ شَرْقِ الشَّمْسِ وَغَرْبِهَا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُتَّجِهَةً إِلَى الْجَنُوبِ، أَيْ لَا يَحْجُبُهَا عَنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ حَاجِبٌ، وَهو الأَنْفَعُ لِحَيَاةِ الشَّجَرَةِ وَطِيبِ ثَمرِهَا، وَبِذَلِكَ يَكُونُ زَيْتُ هَذِهِ الشَّجَرةِ أَجْوَدَ الزِّيوتٍ، وَإِذَا كَانَ الأَجْوَدَ كَانَ هُوَ الأَشَدَّ وَقُودًا، وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ بِجُمْلَةِ: "يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ". فَجَاءَتْ هَذِهِ الجملةُ في مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ "زَيْتُونةٍ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْن عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لمُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: كَيْفَ يَخْلُصُ نُورُ اللهِ مِنْ دُونِ السَّمَاءِ؟. فَضَرَبَ اللهُ مَثَلَ ذَلِكَ لِنُورِهِ، فَقَالَ: "اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ"، والمِشْكاةُ: كُوَّةُ الْبَيْتِ، "يُوقَدً مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ" الشَّجَرَةُ: إِبْرَاهِيمُ ـ عليْهِ السَّلامُ، "زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ"، لَا يَهُودِيَّة وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ. ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ: 67، مِنْ سورةِ آل عمرَانَ: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْركينَ}.
وقريبٌ منهُ ما وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: "زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ" قَالَ: قَلْبُ إِبْرَاهِيمَ ـ عليْهِ السَّلامُ، لَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، "يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ"، قَالَ: رَجُلٌ صَالِحٌ، "لَا شَرْقيَّةٍ وَلَا غَرْبيَّةٍ" قَالَ: لَا يَهُودِيٍّ وَلَا نَصْرَانِيٍّ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حَميدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "لَا شرقيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ" قَالَ: هِيَ الشَّمْسُ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ إِلَى أَنْ تَغْرُبُ لَيْسَ لَهَا ظِلّ، وَذَلِكَ أَضْوَأُ لِزَيْتِهَا، وَأَحْسَنُ لَهُنَّ، وَأَنْوَرُ لَهُ.
وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "فِيهَا مِصْبَاح الْمِصْبَاح فِي زجاجة الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَب دري يُوقد من شَجَرَة مباركة زيتونة لَا شرقية وَلَا غربية" فِي سَفْحِ جَبَلٍ لَا تُصِيبُها الشَّمْسُ إِذا طَلَعَتْ، وَلَا إِذَا غَرَبَتْ.
وَقريبٌ مِنْ هذا ما أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنعانيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ: "زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ" قَالَ: لَا يَفِيءُ عَلَيْهَا ظِلٌّ شَرْقِيٌّ وَلَا غَرْبيٌّ، كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّها صَاحِبَةُ الشَّمْسِ، وَهُوَ أَصْفَى الزَّيْتِ وَأَطْيَبُهُ وأَعْذَبُهُ، هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلْقُرْآنِ، أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَهُدًى مُتَظَاهِرٌ، أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْمَعُ كِتَابَ اللهِ فَوَعَاهُ وَحفظه وانْتَفَعَ بِمَا فِيهِ، وَعمل بِهِ، فَهَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ"، قَالَ: لَيْسَتْ شَرْقِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا غَرْبٌ، "وَلَا غَرْبِيَّةٍ" لَيْسَ فِيهَا شَرْقٌ، وَلَكِنَّهَا شَرْقِيَّةٌ غَرْبِيَّةٌ.
وَأَخْرَجَ الْفرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ" قَالَ: شَجَرَةٌ لَا يُظِلُّها كَهْفٌ وَلَا جَبَلٌ، وَلَا يُواريهَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَجْوَدُ لِزَيْتِهَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنٌ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وَمُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُم، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تعالى: "لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ" قَالَ: هِيَ فِي وسَطِ الشَّجَرِ لَا تُصِيبُها الشَّمْسُ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ، وَهِيَ مِنْ وُجُوهِ الشَّجَرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبي مَالِكٍ وَمُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ فِي الأَرْضِ لَكَانَتْ شَرْقِيَّةً أَوْ غَرْبِيَّةً، وَلَكِنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِنُورِهِ.
قوْلُهُ: {يَكادُ زيتُها يُضيءُ} لِشِدَّةِ صفائهِ وتأَلُّقِهِ، وَيُطْلَقُ الزَّيْتُ على عُصَارَةِ حَبِّ الزَّيْتُونِ وَمَا شابَههُ كَالسِّمْسِمِ، وبُذُورِ القُطْنِ، وَعَبَّادِ الشَّمْسِ، والفُولِ السُّودانيِّ، وغَيْرِ ذلكَ مِنَ الحُبوبِ الَّتِي تحتَوي عَلَى مَادَّةٍ دُهْنِيَّةٍ، وَإِنْ بِنِسَبٍ مُتَفاوَتِةٍ، وأَنواعٍ مُخْتلِفةٍ. وَتُعدُّ الزُّيوتُ مادَّةً غِذَائيَّةً أَسَاسَيَّةً لِحياةِ الإِنْسانِ. وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فيها الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَتِ النِّصَابَ الَّذي يُحَدِّدُهُ السَّادَةُ الفُقَهاءُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّه قالَ: "يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ" قَالَ: يكَادُ مَنْ رَأَى مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَإِنْ لَّمْ يَتَكَلَّمْ.
٠ تعليق