وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
(7)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} تقدَّمَ في الآيةِ التي قبلَها أَنَّهُ لما كانَ الزوجُ لَا يَسْتَطيعُ أَنْ يَأْتي بِشُهُودٍ أربعةٍ لِيُثْبِتَ اتهامَهُ لزوجَتِهِ بالزِّنا لأنَّهُ لو ذهبَ ليأتي بالشهودِ لَقَضَى الزاني وَطَرَهُ وانْصَرفَ فلا يرى الشُّهودُ شَيْئًا يشهدون عليْهِ؛ فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: لمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاءَ}، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ بِأَرْبعَةِ شُهَدَاءَ، يكونُ قَدْ خَرَجَ الرَّجُلُ، فَلَمْ ألبَثْ إِلَّا أَيَّامًا فَإِذا ابْنُ عَمٍّ لي مَعَهُ امْرَأَتُهُ وَمَعَهَا ابْنٌ وَهِيَ تَقولُ: مِنْكَ. وَهُوَ يَقُول: لَيْسَ مِنِّي. فَنَزَلَتْ آيَةُ اللّعانِ. قَالَ عَاصِمٌ: فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ، وَأَوَّلُ مَنِ ابْتُلِىَ بِهِ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالطَّيَالِسِيُّ، وَعبدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: لمّا نَزَلَتْ: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لمْ يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاءَ} الْآيَةَ، قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْأَنْصَار: أَهَكَذَا أُنْزِلَتْ يَا رَسُولَ اللهِ؟. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَار، أَلَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكم؟)). فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لَا تَلُمْهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ. وَاللهِ مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً قَطُّ إِلَّا بِكْرًا، وَمَا طَلَّقَ امْرَأَةً قَطُّ فاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ. فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ، وَأَنَّهَا مِنَ اللهِ، وَلَكِنِّي تَعَجَّبْتُ إِنِّي لَوْ وَجَدْتُ لُكاعًا قَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أَهيجَهُ وَلَا أُحَرِّكَهُ حَتَّى آتِي بأَرْبعَةِ شُهَدَاءَ ـ فَوَاللَّهِ، لَا آتِي بِهِمْ حَتَّى يَقْضِي حَاجَتَهُ. قَالَ: فَمَا لَبِثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُميَّةَ، وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذينَ تِيبَ عَلَيْهِم، فجَاءَ مِنْ أَرْضِهِ عِشَاءً، فَدَخَلَ عَلى امْرَأَتِهِ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا رَجُلًا، فَرَأى بِعَيْنِهِ، وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ، فَلَمْ يُهْجْهُ حَتَّى أصْبَحَ، فَغَدَا عَلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي جِئْتُ أَهْلِي عِشَاءً، فَوَجَدْتُ عِنْدهَا رَجُلًا، فَرَأَيْتُ بِعَيْني وَسَمِعْتُ بِأُذُني، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا جَاءَ بِهِ، وَاشْتَدَّ بِهِ، وَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ، فَقَالُوا: قَدِ ابْتُلِينا بِمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الْآنَ.
فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُ، فِي الْمُسْلِمينَ، فَقَالَ هِلَالٌ: وَاللهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللهُ لي مِنْهَا مَخْرَجًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي قَدْ أَرَى مَا اشْتَدَّ عَلَيْكَ مِمَّا جِئْتُ بِهِ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَنّي لَصَادِقٌ، وَإنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ بِضَرْبِهِ، إِذْ نَزَلَ عَلَى رَسُول اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْوَحْيُ، وَكَانَ إِذا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ عَرَفُوا ذَلِكَ فِي تَرَبُّدِ جِلْدِهِ، فَأَمْسَكُوا عَنْهُ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْوَحْيِ، فَنَزَلَتْ {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُم ..} فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْوَحْيُ، فَقَالَ: ((أبْشُرْ يَا هِلَالُ، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا))، فَقَالَ هِلَال: قَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَلِكَ مِنْ رَبِّي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَرْسِلُوا إِلَيْهَا)). فَجَاءَتْ، فَتَلَاهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَيْهِمَا، وذَكَّرَهُمَا، وَأَخْبَرَهُما أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، فَقَالَ هِلَال: وَالله يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ صَدَقْتُ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: كَذَبَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا)). فَقيلَ لهِلَالٍ: اشْهَدْ. فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقينَ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْخَامِسَةِ، قِيلَ لهِلَالٍ: فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعَذَابَ، فَقَالَ: وَالله لَا يُعَذِّبُنِي اللهُ عَلَيْهَا، كَمَا لمْ يَجْلِدْني عَلَيْهَا. فَشَهِدَ فِي الْخَامِسَةِ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبينَ. ثمَّ قِيلَ لَهَا: اشْهَدِي. فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبينَ. فَلَمَّا كَانَتْ فِي الْخَامِسَةِ، قيلَ لَهَا: اتَّقِي اللهَ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْونُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكِ الْعَذَابَ، فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً، فَقَالَتْ: وَاللهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي، فَشَهِدَتْ فِي الْخَامِسَةِ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إَنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقينَ.
فَفَرَّقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَنَّهُ لَا يُدْعَى لِأَبٍ، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا مِنْ أَجْلِ الشَّهَادَاتِ الْخمْسُ، وَقَضَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا قُوتٌ وَلَا سُكْنَى وَلَا عِدَّةٌ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهَما تَفَرَّقا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ، وَلَا مُتَوَفَّى عَنْهَا.
وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِشُرَيْكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْبَيِّنَةَ أَوْحُدَّ فِي ظَهْرِكَ)).
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟. فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ.
فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، وَلَيُنَزِّلَنَّ اللهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْري مِنَ الْحَدِّ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ ـ عَليْهِ السَّلامُ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِِ: {وَالَّذينَ يَرْمُونَ أَزوَاجَهُم} حَتَّى بَلَغَ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقينَ}، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فجَاءَ هِلَالٌ يُشْهِدُ وَالنَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ، يَقُولُ: ((اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تائبٌ؟ ثمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، أَوَقَفوها وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ.
فتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ، حَتَّى ظَنَّنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ ثمَّ قَالَت: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ، فَمَضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَبْصِرُوها، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَينَيْنِ سابِغَ الالْيَتَيْنِ خَدْلَجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ)).
فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتابِ اللهِ لَكَانَ لي وَلَها شَأْنٌ))
قولُهُ تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ} الواوُ: اعْتِرَاضِيَّةٌ. و "الخامسة" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ؛ أَيْ: الشَّهَادَةُ الخامِسَةُ. و "أَنَّ" حَرْفٌ نَاصْبٌ، ناسِخٌ، مَصْدَرِيٌّ، مُشَبَّهٌ بالفعْلِ. و "لَعْنَةَ" اسمُها مَنْصوبٌ بِها وهوَ مُضافٌ. و لفظُ الجلالةِ "اللَّهِ" مَجرورٌ بالإضافِة إِليْه. و "عَلَيْهِ" على: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبرِ "أَنَّ" المُقدَّرِ، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" مِنِ اسْمِها وخبرِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ عَلَى أنَّهُ خَبرُ المبْتدأِ، والتقديرُ: والخامِسَةُ إِثْبَاتُ لَعْنَةِ اللهِ عَلَيْهِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ وخبرِهِ مُعْتَرِضَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} إنْ: حَرْفُ شَرْطٍ. و "كَانَ" فِعْلٌ مَاضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "ِإِنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَاسْمُهَا ضَمير مُسْتترٌ فيها جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى الزَّوجِ المُلاعِنِ؛ وَ "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "كَانَ"، و "الْكَاذِبِينَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، وَجَوَابُ "إن" الشَّرْطيَّةِ محَذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ؛ تقديرُهُ: إِنْ كانَ مِنَ الكاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ ـ سُبْحَانَهُ وتعالى، وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ مُعْتَرِضَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
اتَّفَقَ القرَّاءُ السَّبْعَةُ عَلى رَفْعِ {والخامِسَةُ} الأُولَى، عَلَى أَنَّهُ مَرْفوعٌ بالابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ "أَنَّ" وَمَا في حَيِّزها خبرُ لهُ. وَاخْتَلَفُوا في الثَّانِيَةِ: فَنَصَبَهَا حَفْصٌ، ونَصَبهَمُا مَعًا الحَسَنُ وعَبْدُ الرَّحمنِ السُّلَمِيُّ وطَلْحَةُ وَالأَعْمَشُ. وَأَمَّا نَصْبُ الأُولى فعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ "أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ" فَيْكونُ النَّصْبُ لِلْعَطْفِ عَلَى المَنْصُوبِ قَبَلَهُ. وَعَلَى قِراءةِ مَنْ رَفَعَ يَكُونُ النَّصْبُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: ويَشْهَدُ الخامِسَةَ. وَأَمَّا نَصْبُ الثانِيَةِ فَعَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ المَنْصُوبِ، وَهُوَ "أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ". والنَّصْبُ هُنَا أَقْوَى مِنْهُ في الأُولى لِقُوَّةِ النَّصْبِ فِيمَا قَبْلَهَا. وَلِذَلِكَ لمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ. وأَمَّا "أَنَّ" وَمَا في حَيِّزِهَا: فَعَلَى قِراءَةِ الرَّفْعِ تَكونُ في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبرًا للمُبْتَدَأِ ـ كَمَا تقدَّمَ، وَعَلى قِراءَةِ النَّصْبِ تَكونُ عَلى إِسْقَاطِ الخافِضِ، وَيَتَعَلَّقُ الخافِضُ بِذَلِكَ النَّاصِبِ لـ "الخَامِسَة" أَيْ: وَيَشْهَدُ الخامِسَةَ بِأَنَّ لَعْنَةَ اللهِ، وَبِأَنَّ غَضَبَ اللهِ. وجَوَّزَ أَبُو البَقَاءِ أَنْ يَكونَ بَدَلًا مِنَ "الخامسة".
قَرَأَ العامَّةُ: {أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ} بِتَشْديدِ "أَنَّ" في المَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ نافعٌ بِتَخْفِيفِها في المَوْضِعَيْن، إِلاَّ أَنَّهُ يَقَرَأُ "غَضِبَ اللهُ" عَلى أَنَّ "غَضِبَ" فِعْلًا مَاضِيًا، فاعِلُه اسْمُ الجَلَالَةِ. وهذا ما نَقَلهُ عنْهُ الشَّيْخُ أَبو حَيَّانَ الأندلُسِيُّ بتخْفيفِ الهَمْزةِ في الأُولى والثانِيَةِ، ولم يَنْقُلْ هذا عنهُ غيرُ الشَّيْخِ. وعَلَى هَذهِ القِرَاءَةِ يَكونُ اسْمَ "أنْ" ضَميرُ الشَّأْنِ في المَوْضِعَيْنِ، وَيكونُ "لَعْنَةُ اللهِ" مُبْتَدَأً ويكونُ الجارُّ مِنْ "عَلَيْهِ" مُتَعَلِّقًا بخبرٍ مُقدَّرٍ. وتكونُ الجملةُ خبرَ "أَنْ". وَفي الثانِيَةِ يَكونُ "غَضِبَ اللهُ" جُمْلَةً فعليَّةً في مَحَلِّ رفعِ خبر "أَنْ" أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ يُقَالُ: يَلْزَمُكمْ أَحَدُ أَمْرَيْن، إمَّا عَدَمُ الفصلِ بين المُخَفَّفَةِ والفِعْلِ الواقعِ خَبرًا، وإمَّا وقوعُ الطَّلَبِ خَبَرًا في هذا البابِ وهو ممتَنِعٌ. وَتَقريرُ ذَلِك: أَنَّ خَبرَ المُخَفَّفَةِ مَتَى كانَ فِعْلًا مُتَصَرِّفًا غَيرَ مَقْرونٍ بـ "قَدْ" وَجَبَ الفَصْلُ بَيْنَهُمَا. بِمَا تَقَدَّمَ في سُورَةِ المائدَةِ. فَإِنْ أُجيبَ بِأَنَّهُ دُعاءٌ اعْتُرِضَ بِأَنَّ الدُّعاءَ طَلَبٌ، وَقَدْ نَصُّوا عَلى أنَّ الجُمَلَ الطَلَبِيَّةَ لَا تَقَعُ خَبرًا لـ "إِنَّ" . حَتّى تَأَوَّلوا قَوْلَ مُنْقِذِ بْنِ الطَّمَّاحِ الأَسَدِيِّ، أَحَدِ فُرْسَانِ الجاهِلِيَّةِ المُلَقَّبِ بالجُمَيْحِ:
ولو أَصَابَتْ، لَقَالَتْ، وَهِي صَادِقَةٌ .............. إِنَّ الرِّياضَةَ لَا تُنْصِبْكَ للشَّيْبِ
وقولُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَ "أَنْ" الخَفيفَةُ عَلى قِراءَةِ الرَّفْعِ في قولِهِ: أَنْ غَضِبَ، وَقَدْ وَلِيَهَا الفِعْلُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسِيُّ: وَأَهْلُ العَرَبِيَّةِ يَسْتَقْبِحُونَ أَنْ يَلِيَهَا الفِعْلُ إلَّا بأَنْ يُفْصَلَ بَيْنَها وَبَيْنَهُ بِشَيْءٍ نَحْوَ قَوْلِهِ في الآيةِ: 20، مِنْ سُورةِ المُزَّمِّلِ: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ}، وقولِهِ مِنْ سُورَةِ طه: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ} الآيةَ: 89، فَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ سُورةِ النَّجْمِ: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ} الآيةَ: 39، فَذَلِكَ لِقِلَّةِ تَمَكُّنِ "لَيْسَ" في الأَفْعَالِ. وأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ سورةِ النَّمْلِ: {أَنْ بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} الآيةَ: 8، فإنَّ "بُوْرِكَ" في مَعْنَى الدُّعَاءِ فَلَمْ يَجِئْ دُخولُ الفاصِلِ لِئَلَّا يَفْسُدَ المعنى. وَظاهرُ هَذَا أَنَّ "غَضِبَ" لَيْسَ دُعَاءً، بَلْ هُوَ خَبرٌ عَنْ "غَضَبِ اللهِ عَلَيْهَا" والظَّاهِرُ أَنَّهُ دُعاءٌ، كَمَا أَنَّ "بُورِكَ" كَذَلِكَ. وَلَيْسَ المَعْنَى عَلى الإِخْبَارِ فِيهِما فاعْتِراضُ أَبي عَلِيٍّ وَمُتَابَعَةُ أَبي مُحَمَّدٍ ابنُ عطِيَّةَ لَهُ لَيْسَا بمَرْضِيَّيْنِ.