وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(14)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} لولا: هُنَا هِيَ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لوُجودٍ، لِمَجِيءِ اسْمٍ بَعْدَهَا ابْتُدِئتِ الجُملَةُ بِهِ، فَقَدِ امْتَنَعَ وُقوعُ مَسِّ العَذابِ العظيمِ إِيَّاهُمْ في الدُّنيا والآخِرةِ بوُجودِ فَضْلِ اللهِ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ. أَيْ: وَلَوْلاَ أَنْ تَفَضَّلَ اللهِ عَلَيْكُم بِبَيَانِ الأَحْكَامِ وَرَسْمِ الحُدُودِ وَسَنِّ الْقَوَانِينِ الَّتي تُنَظِّمُ الحَيَاةَ الاجْتِمَاعِيَّةَ. وَيَشْمَلُ هَذَا الفَضْلُ حِكْمَةَ اللهِ ـ تَعَالَى مِنْ تَأْخِيرِهِ العَذَابَ، وَقَبُولِ التَّوْبَةِ مِمَنْ تابَ. وَالْخِطَابُ في قولِهِ: "عَلَيْكُمْ" هُوَ لِمَنْ قَذَفَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةَ عائشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا، بالزِّنى مِنَ المُؤْمِنِينَ دُونَ عَبْدِ اللهِ ابْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ.
قولُهُ: {وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أَيْ: وَلَوْلاَ رَحْمَتُهُ بِكُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَدَمِ التَّعْجِيلِ بِالعُقُوَبَةِ، وَيَتَعَيَّنُ هُنَا أَنَّ المَعْنِيَّ هُوَ إِسْقَاطُ عُقُوبَةِ الْحَدِّ عَنْهُمْ بِعَفْوِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْها، وَصَفْوَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْهُمْ، وَهَذِا يُؤَيِّدُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَحَدًا مِنَ الْعُصْبَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْإِفْكِ: إِمَّا لِعَفْوِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُما، عنهم، وَإِمَّا لِأَنَّ كَلَامَهُمْ فِي الْإِفْكِ كَانَ تَخَافُتًا وَسِرَارًا، وَلَمْ يَجْهَرُوا بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ أَشَاعُوهُ فِي أَوْسَاطِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ. وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنَ الرِّوَايَاتِ.
وَهَذَا الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ حَدِيثُ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضي اللهُ تَعَالى عَنْهَا، عنْ الْإِفْكِ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" وَالَّذي سَبَقَ إِيرادُهُ في تفسيرِ الآية: 11 السابقة، فَإِنَّها لمْ تَسْمَعْهُ إِلَّا عَرَضًا مِنْ أُمِّ مِسْطحٍ حِينَ سَقَطَ مِرْطُها فَدَعَتْ عَلَى ابْنِها مِسْطحٍ. وَكَيْفيَّةُ سَمَاعِهَا الْخَبَرَ مِنْ أُمِّ مِسْطَحٍ، وَقَوْلها لها: أَوَ قَدْ تُحُدِّثَ بِهَذَا وَبَلَغَ النَّبِيَّ وَأَبَوَيَّ؟!.
وَقِيلَ: حَدَّ حَسَّانَ وَمِسْطَحًا وَحِمْنَةَ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بْنِ سَلُولٍ، فَقد قَالَ فَرِيقٌ: بأَنَّهُ لَمْ يُحَدَّ حَدَّ الْقَذْفِ تَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ لِلْإِيمَانِ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُما، بأَنَّ أُبَيًّا جُلِدَ حَدَّ الْقَذْفِ أَيْضًا. واللهُ ـ تَعَالى، أَعْلمُ.
قولُهُ: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أَيْ: لَنَزَلَ بِكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ بِسَبَبَ خَوْضِكم فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، فأَفَضْتُمِ فيهِ: خُضْتُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الإِفْكِ. وَالْإِفَاضَةُ فِي الْقَوْلِ مُسْتَعَارٌ مِنْ إِفَاضَةِ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ، أَيْ: سكْبُهُ فيهِ بِكَثْرَةٍ. فَالْمَعْنَى: مَا أَكْثَرْتُمُ الْقَوْلَ فِيهِ وَالتَّحَدُّثَ بِهِ فيما بَيْنكُم.، ويُقالُ أَفَاضَ في حَديثِهِ إِذا انْدَفَعَ وَخَاضَ، فإنَّ في مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ الكَريمةِ وَجهان:
أَوَّلُهُما: وَلَوْلَا أَنَّي قَضَيْتُ أَنْ أَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنيا بِضُرُوبِ النِّعَمِ الَّتي مِنها إِمْهَالُكم لتَتوبوا، وأَنْ أَرْحَمَكم بالمَغْفِرَةِ لَكُمْ في الآخِرَةِ والعَفوِ عَنْكُمْ لَعَجَلْتُ لَكُمُ العِقَابَ عَلَى مَا خُضْتُمْ فِيهِ مِنْ حَديثِ الإِفْكِ الذي جِئْتُمْ بِهِ.
ثانيهما: وَلَوْلَا فَضْلي عَلَيْكُمْ ورَحْمَتي بِكُمْ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيم في الدُنْيَا وَالآخِرَةِ مَعًا، فَيَكُونَ فَيهِ تَقْديمٌ وَتَأْخِيرٌ.
قولُهُ تَعَالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الواوُ: للعَطفِ. و "َلَوْلَا: حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ. و "فَضْلُ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، مُضافٌ. ولفظُ الجلالةِ "اللَّهِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "عَلَيْكُمْ" عَلَى: حرفٌ للجَرِّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "فَضْلُ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "وَرَحْمَتُهُ" الواوُ: للعَطْفِ، و "رَحْمَتُهُ" مَعْطُوفٌ عَلَى "فَضْلُ" مرفوعٌ مِثْلُهُ، وهوَ مُضافٌ. والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِليْهِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنَ الفَضْل والرَّحْمَةِ. و "لدُّنْيَا" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، وَعَلَامَةُ جَرِّهِ كَسْرةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها عَلى الأَلِفِ. و "وَالْآخِرَةِ" الواو: حرفُ عَطْفٍ، و "الْآخِرَةِ" مَعْطُوفٌ عَلَى "الدُّنْيَا"، والتَّقْديرُ: حَالَةَ كَوْنِهِما كَائِنَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَخَبَرُ "لَوْلَا" مَحْذوفٌ وُجُوبًا لِقِيَامِ جَوَابِ "لَوْلَا" مُقَامَهُ والتقديرُ: مَوْجُودانِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ شَرْطٌ لِـ "لَوْلَا" فَلَا مَحَلَّ لَها مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} اللامُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "لَوْلَا". وَ "مَسَّكُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى الفتْحِ الظاهِرِ، وكافُ الخِطَابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، واميمُ لِتَذْكيرِ الجَمْعِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ وَسَبَبٍ، أَي: لمسَّكم بسببِ ما أَفضْتم فيه .. . مُتَعَلِّقٌ بِـ "مَسَّكُمْ". وَ "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحرفِ الجَرِّ. و "أَفَضْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وهيَ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "فِيهِ" فِي: حَرْفٌ للجَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ: "أَفَضْتُمْ"، والهاءُ: هي ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ هيَ صِلَةٌ للاسْمِ المَوْصُولِ: "ما"، فَلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، والعائدُ هو الضَّميرُ مِنْ قولِهِ "فِيهِ". وَ "عَذَابٌ" فَاعِلٌ بالفعْلِ: "مَسَّكُمْ" فهو مَرْفوعٌ بِهِ. و "عَظِيمٌ" صِفَةُ "عَذَابٌ" مرفوعٌ مِثْلُهُ، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابُ "لَوْلَا"، لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَجُمْلَةُ "لَوْلَا" وجوبُها مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {لَوْلَا} الأُولى عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.