إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ
(15)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} أَيْ: لَمَسَّكُمْ عَذابٌ عَظيمٌ ذَلِكَ الوَقْتَ حِينَ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَيَرْويهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كانَ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ لَهُ: بَلَغَني كَذَا وَكَذَا، يَنْقُلُهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعضٍ تَلَقِّيًا.
وَقالَ الزَّجَّاج: مَعْنَاهُ إِذْ يُلْقِيهِ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ. "مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" لَهُ: (4/38). يُقَالُ تَلَقَّى القَوْلَ وَتَلَقَّنَهُ وَتَلَقَّفَهُ، بمعنى.
وَقالَ الفَرَّاءُ: كانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: أَمَا بَلَغَكَ كَذَا وكَذَا، فَيَذْكُرُ قِصَّةَ أُمِّ المُؤمنينَ السِّيِّدَةَ عائشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، لِتَشِيعَ الفَاحِشَةَ. "مَعَاني القُرْآنِ وإعرابُهُ" لهُ: (2/248).
و "بِأَلْسِنَتِكُمْ" أَيْ: أَنَّ بَعْضَكُمْ كَانَ يَقُولُ لِبَعْضٍ هَلْ بَلَغَكَ حَديثُ "عائشةَ" حَتَّى شاعَ فِيما بَيْنَهُمْ وَانْتَشَرَ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْتٌ وَلَا نَادٍ إِلَّا طَارَ فِيهِ.
فَقَدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مُلَيْكَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْها، تَقْرَأُ: "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ" وَتَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ وَلَقُ القَوْلِ. والوَلَقُ الْكَذِبُ، قَالَ ابْنُ أَبي مُلَيْكَةَ: هِيَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ غَيرِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِيهَا.
وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ: "إِذْ تَلَقَّوْنَهً بِأَلْسِنَتِكُمْ" قَالَ: يَرْويهِ بَعْضُكُم عَنْ بَعْضٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ: "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ" قَالَ: يَرْويهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ.
قولُهُ: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وَإِنَّما قُيِّدَ بِالأَفْواهِ مَعَ أَنَّ القَوْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْفَمِ لَأَنَّ الشَّيْءَ المَعْلُومَ يَكُونُ عِلْمُهُ فِي القَلْبِ، ثُمَّ يُتَرْجَمُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا الإِفْكُ هوَ قَوْلٌ يُلاكُ في أَفْوَاهِهِمْ لَيْسَ إِلَّا، دونَ أَنْ يكونَ تَرْجَمَةً لِعِلْمٍ مَوجودٍ في القَلْبِ، وهذا كَقَوْلِهِ ـ تَعالى، مِنْ سُورَةِ آلِ عُمْرَانَ: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} الآيةَ: 167.
قوْلُهُ: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} أَيْ: وتحْسَبُونَ خَوْضَكُمْ في قَذْفِ أُمِّ المُؤمنينَ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَمْرًا سَهْلًا بَسِيطًا، وتعُدُّونَها صَغِيرَةً.
قوْلُهُ: {وَهُوَ عِنْدَ اللهُ عَظِيمٌ} وهذا الكَذِبُ، والافتراءُ، وَقَذْفُ زوجَةِ نبيِّكُمْ ـ عليْهِ وآلِهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، جُرْمٌ عَظِيمٌ، وكَبيرَةٌ مِنْ أَفظعِ الكبائِرِ. فَقدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ في "المُعْجَمُ الكبير": (3/168)، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليمانِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّهُ قَالَ: ((قَذْفُ المُحْصَنَةِ يَهْدِمُ عَمَلَ مِئَةِ سَنَةٍ)). فكيفَ بمَنْ قَذَفَ زوجةَ نَبيِّهِ!. وأَخْرَجَهُ الحاكِمُ في مُسْتَدْركِهِ على الصَّحيحينِ جُزْءًا مِنْ حديثٍ ونَصُّهُ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيُّ، ثَنَا النُّفَيْلِيُّ، ثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَدْعُونِي رَبِّي فَأَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، تَبَارَكْتَ لَبَّيْكَ وَحَنَانَيْكَ، وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ، وَعَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ رَبَّ الْبَيْتِ))، قَالَ: ((وَإِنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنَةِ لَيَهْدِمُ عَمَلَ مِئَةِ سَنَةٍ)). "المُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ للحَاكِمِ: (4/617)، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ شَاهِدًا، كما أخْرَجَهُ أبو نُعيمٍ الأصْفهانيُّ في الحُلْيةِ: (4/349)، والبذَّارُ في مُسْنَدِهِ: (1/446)، وغيرُهُم.
وأَخْرَجَ البُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ في صَحيحيْهِما، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَينَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)). وفي روايةٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، قَالَ: مَرَّ بِهِ رَجُلٌ لَهُ شَرَفٌ، فَقَالَ لَهُ عَلْقَمَةُ: إِنَّ لَكَ رَحِمًا، وَإِنَّ لَكَ حَقًّا، وَإِنِّي رَأَيْتُكَ تَدْخُلُ عَلَى هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءِ، وَتَتَكَلَّمُ عِنْدَهُمْ بِمَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِهِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ بِلاَلَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ، صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)). قَالَ عَلْقَمَةُ: فَانْظُرْ وَيْحَكَ مَاذَا تَقُولُ، وَمَاذَا تَكَلَّمُ بِهِ، فَرُبَّ كَلاَمٍ قَدْ مَنَعَنِي أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ، مَا سَمِعْتُ مِنْ بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ. أَخْرَجَهُ الحُمَيْدِي في مُسْنَدِهِ: (911)، وَأَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (3/469 (15946)، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ في مُسْنَدِهِ برقم: (358)، وَابْنُ مَاجَةَ برقم: (3969)، والتِّرْمِذِيُّ برقم: (2319)، وَالنَّسائيُّ، في "الكبرى": (2028).
قولُهُ تَعَالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} إِذْ: ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مشنَ الزَّمانِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَفَضْتُمْ"، أَوْ بِـ {مَسَّكُمْ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها. و "تَلَقَّوْنَهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ حُذِفَتْ إِحْدَى تَاءَيْهِ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلَامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَالهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفْعُولِيَّةِ. و "بِأَلْسِنَتِكُمْ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَلَقَّوْنَ"، و "أَلْسِنَتِكُمْ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضَافٌ، وَكَافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ: لتَذْكيرِ الجَمعِ. وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بإضافةِ "إِذْ" إِلَيْهَا.
قولُهُ: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ ما} الواوُ: للعَطْفِ، و "تَقُولُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلَامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "بِأَفْوَاهِكُمْ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَقُولُونَ"، و "أَفْوَاهِكُمْ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضَافٌ، وَكَافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ: لتَذْكيرِ الجَمعِ. و "مَا" مَوْصُولَةٌ مبنيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ لـ "تقولون"؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى "تَذْكُرُونَ". وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "تَلَقَّوْنَهُ".
قولُهُ: {لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} لَيْسَ: فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ. و "لَكُمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "لَيْسَ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "بِهِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "عِلْمٌ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "عِلْمٌ" اسْمُ "لَيْسَ" مُؤَخَّرٌ مَرفوعٌ بها، وَجُمْلَةُ "لَيْسَ" صِلَةُ "مَا" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} الوَاوُ: للعطْفِ، و "تَحْسَبُونَهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلَامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ، مفعولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "هَيِّنًا" مَفْعُولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ. والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "لَيْسَ" على كونِها صِلَةَ المَوصولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} الواوُ: وَاوُ الحالِ. و "هُوَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "عِنْدَ" منصوبٌ عَلَى الحالِ مِنْ "عَظِيمٌ"، لِأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، وهوَ مُضافٌ؛ وَلَفْظُ الجَلَالَةِ "اللَّهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "عَظِيمٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ، على الحالِ مِنَ المَفْعُولِ بِهِ في: "تَحْسَبُونَهُ".
قَرَأَ العامَّةُ: {تَلَقَّوْنه}. وَالْأَصْلُ: "تَتَلَقَّوْنَهُ" فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، كَقولِهِ: {تَنَزَّلُ} الآيةَ: 4، مِنْ سُورَةِ "القَدْرِ" وَنَحْوِهِ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "تَتَلَقَّوْنَه" بِتَاءَيْنِ، وَقد تَقَدَّمَ أَنَّها الأَصْلُ.
وقرَأَ البزِّيُّ "إِتَّلَقَوْنَهُ" عَلَى أَصْلِهِ في أَنَّهُ يُشَدِّدُ التَّاءَ وَصْلًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ذلكَ في الآيةِ: 267، مِنْ سورةِ البَقَرَةِ نَحْوَ {وَلَاَ تَيَمَّمُوا} وَقد سَهَّلَ هُنَاكَ لأنَّ مَا قَبْلَهُ حَرْفُ لِيْنٍ بِخِلَافِهِ هُنَا.
وقرأَ أَبُو عَمْرٍو والأخوانِ (والكسائي وحمزةُ) عَلى أُصُولِهم المُتَّبعَةِ في إِدْغَامِ الذَّالِ في التاءِ.
وَقَرَأَ ابْنُ السُّمَيْفَعِ ـ في رِوَايَةٍ عَنْهُ: "تُلْقُوْنَهُ" بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكونِ اللامِ وَضَمِّ القافِ وهو مُضَارِعُ "أَلْقَى" إِلْقَاءً. وَقَرَأَ في رِوَايةٍ أُخْرَى عنْهُ: "تَلْقَوْنَهُ" بِفَتْحِ التَّاءٍ وَسُكونِ اللَّامِ وَفَتْحِ القَافِ مُضَارِعَ "لَقِيَ".
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، والسَّيِّدةُ عائشَةُ وَعِيسَى، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِّيٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم، "تَلِقُونَهُ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ القافِ، مِنْ وَلَقَ الرَّجلُ إِذَا كَذِبَ. قَالَ ابْنُ سَيْدَهْ: جَاؤوا بالمُتَعَدِّي شَاهِدًا عَلى غَيْرِ المُتَعَدِّي. أَيْ أَنَّهُ أَرادَ "تَلِقُوْنَ" فِيهِ، فَحُذِفَ الحَرْفُ وَوَصَلَ الفِعْلُ للضمير. يَعْني أَنَّهُمْ جَاؤوا بِـ "تَلِقُوْنَهُ" وَهُوَ مُتَعَدٍ مُفَسَّرًا بِـ "تُكذِّبون" وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، ثُمَّ حَمَّلَهُ مَا ذُكِرَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ "الوَلْقِ" وَهُوَ الإِسْرَاعُ بِالشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ كَعَدْوٍ في إثْرِ عَدْوٍ، وَكَلامٍ في إِثْرِ كلامٍ، إذْ يُقالُ: وَلَقَ في سَيْرِه، إِذَا أَسْرَعَ، وقدْ أنْشَدوا عَلى ذَلِكَ أَبو عَمْرِ بْنُ العلاءِ قَوْلُ الشَّاعرِ القُلاحِ بْنِ حَزْنِ المِنْقَرِيِّ، وقيل: الشَّمَّاخِ، يَهْجُو جُلَيْدًا الكِلابيَ:
إِنَّ الجُلَيْدَ زَلِقٌ وزُمَّلِقْ ............................... كذنبِ العَقْربِ شَوّال غَلِقْ
جاءَت بِهِ عنْسٌ مِنَ الشَّأْم تَلِقْ
وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ: أَيْ: تُسْرِعُونَ فَيهِ. وَأَصْلُهُ مِنَ "الوَلْقِ" وَهُوَ الجُنُونُ. واللهُ أعلمُ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَأَبُو جَعْفَرٍ "تَأْلِقُوْنَهُ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَلَامٍ مَكْسُورَةٍ وَقافٍ مَضْمُومَةٍ، مِنَ "الأَلْقِ" وَهُوَ الكَذِبُ.
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ "تِيْلَقُوْنه" بِكَسْرِ التَّاءِ مِنْ فَوْقُ، بَعْدَها ياءٌ سَاكِنَةٌ وَلامٌ مَفْتُوحةٌ وَقافٌ مَضْمُومَةٌ، وَهُوَ مُضَارِعُ "وَلِق" بِكَسْرِ اللَّامِ، كَمَا قَالُوا: "يِيجَلُ" مُضَارِعَ "وَجَلَ"، واللهُ أعلمُ.