إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
(19)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} شاعَ الشَّيْءُ شُيُوعًا وَشَيْعًا وشَيَعَانًا وَشَيْعُوعَةً: ظَهَرَ وَتَفَرَّقَ. يُقَالُ: شاعَ الدَّمُ في الماءِ إِذا قطَرَ فوقَهُ وَتَفَرَّقَ فِيهِ. وَالمُرَادُ بالفاحِشَةِ: الزِّنَا، أَوِْ رَمْيُ المُحْصَناتِ بِهِ، وَالمُرَادُ شُيُوعُ خَبَرِهِ وَانْتِشَارُهُ في المُجْتمَعِ. فَإِنَّ مُجَرَّدَ أَنْ يُحِبَّ المَرْءُ شُيُوعَ الفَاحِشَةِ في مُجْتَمَعِ المُؤْمِنينَ يَضَعُهُ في الصَّفِّ المُعَادي لهُمْ، صَفِّ الكافرينَ وَالمُنَافِقِينَ، سواءٌ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ أَوْ لمْ يَتَكَلَّمُ.
والحُبُّ، الَّذي هُوَ المَيْلُ إِلى الشَّيْءِ هُوَ مِنْ عَمَلِ القَلْبِ، وَالْكَلَامُ مِنْ عَمَلِ اللِّسانِ، وَاللِّسَانُ هُوَ تَرْجُمانُ القَلْبِ. فإِذَا سَكَتَ اللِّسَانُ ولمْ يُتَرْجِمْ شَيْئًا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَعْني أَنْ لَا شَيْءَ في القَلْبِ.
وَاللهُ عَلَّامُ الغُيُوبِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤهُ، مُطَّلِعٌ عَلَى مَا في القُلُوبِ، وَيَعْلَمُ مَا فيهَا مِنْ حُبٍّ وَكُرهٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، سَوَاءً أَخْفَتْ ذَلِكَ وَأَضْمَرَتْهُ وَكَتَمَتْهُ، أَمْ لَهَجَتْ بِهِ وَعَبَّرتْ عَنْهُ وأَظهَرَتْهُ. وهوَ ـ سُبحانَهُ وتَعَالَى، محاسِبٌ العِبَادَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فيَعْفُو عَمَّنْ شاءَ وَيُعَذِّبُ مَنْ يشاءُ، قالَ ـ تَعَالى، آخِرَ سُورَةِ البَقَرَةِ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (284). لأَنَّ مِنْ شَأْنِ تِلْكَ الطَّوِيَّةِ الخبيثةِ أَنْ لَا يَلْبَثَ صَاحِبُهَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَصْدُرَ عَنْهُ مَا هُوَ مُحِبٌّ لَهُ، فَالْمَحَبَّةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّهَيُّؤِ لِإِظهارِ مَا يُحِبُّ وُقُوعَهُ وإِشاعَتِهِ. وَقدْ جِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ "يُحِبُّونَ" لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ في ذَلِكَ.
وَلِفَظَاعَةِ هَذِهِ الجَريمَةِ، جَريمَةِ قَذْفِ المُحْصَناتِ لَا سِيَّمَا قَذْفهمْ أُمِّ المُؤمِنينَ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وأَرْضَاها، فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ ـ تَعَالَى، المَرْحَلَةَ الأُولَى مِنْهَ، وَهِيَ مُجَرَّدُ عَمَلِ الْقَلْبِ في ذلكَ بِحُبِّهِ والميلِ إلَيْهِ، وإِنْ لَمْ يَتَحَوَّلِ إِلَى مَرْحَلَةِ الكَلَامِ فيهِ ونشْرِهِ، وَالحَديثِ عَنْهُ وَإِشاعَتِهِ، فَإِنَّها مَسْأَلَةٌ جِدُّ خَطِيرَةٍ، وَإِشاعَتُها في غايَةِ الشَّناعَةِ. وَإِنَّ مُجَرَّدَ أَنْ تَخُطُرَ في قَلْبِ المرْءِ وَيَميلُ إِلَيها ويُحِبُّها سَيِّئَةٌ، لَكِنَّ الأَسْوَأَ مِنْها هُوَ إِشَاعَتُهَا بَيْنَ النَّاسِ والحديثُ عَنْهَا ونَشْرُها.
قولُهُ: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وَلِذلِكَ فإنَّ اللهَ ـ جَلَّ وَعَلَا، تَوَعَّدَ هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ الَّذينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ في المُؤْمِنِينَ كعبْدِ اللهِ بْنِ أُبيِّ ابنِ سلولٍ، ومَنْ كانَ مِثْلَهُ بِعَذابٍ أَليمٍ في الدُّنيا كجَلْدِهم ونَبْذِهم وَإِسْقَاطِ عَدَالتِهِم، وغيرِ ذلكَ ممَّا يُنزِلُهُ اللهُ بِهِم مِنَ الخِزيِ وَالشِّدَّةِ والبَلَاءِ، وَالآخِرَةِ بما يَنْتَظِرُهُمْ فيها مِنْ العَذابِ في نارِ جَهَنَّمَ.
قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فيعلَمُ نَوَايَاكُمْ وخُبْثَكمْ وسوءَ طويَّتِكمْ، وما تُضْمرونَهُ وتَسْعَونَ إِلَيْهِ، وأَنتمْ لا تعلمونَ بما ينتظِرُكم مِنْ شديدِ عذابِهِ، وعظيمِ انتقامِه.
قولُهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للتَّوكيدِ. و "الَّذينَ" اسمٌ مَوْصولٌ، مَبْنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِهِ عَلى كَوْنِهِ اسْمًا لَهُ. والخَبَرُ جملَةُ "لهم عذاب"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" هَذِهِ مع اسْمِها وخَبرُهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْراب.
قولُهُ: {يُحِبُّونَ} فِعْلٌ مُضارِعِ مرْفوعٍ لتجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ} أَنْ: حَرْفٌ ناصِبٌ مَصْدَرِيٌّ. و "تَشِيعَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ. و " الْفَاحِشَةُ " فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَشِيعَ". و "الَّذِينَ" اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ، وَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةُ وَالجُمْلَةُ بعدها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصوبٍ عَلَى المَفْعُولِيَةِ لـ "يُحِبّوُنَ"، وَالتَّقْديرُ: إِنَّ الَّذينَ يُحِبُّونَ شُيُوعَ الفاحِشَةِ.
قولُهُ: {آمَنُوا} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ، وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} لَهُمْ: اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، الهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ، والميمُ: علامَةُ الجمعِ المُذَكَّرِ. و "عَذَابٌ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ. و "أَلِيمٌ" صِفَةُ "عَذَابٌ" مَرْفوعٌ مِثْلُهُ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ ثانِيَةٍ لِـ "عَذَابٌ"، و "الدُّنْيَا" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعلامَةُ جَرِّهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِها على الأَلِفِ. و "وَالْآخِرَةِ" الواوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "الْآخِرَةِ" مَعْطوفٌ عَلَى "الدُّنْيَا" مَجْرورٌ مِثْلُهُ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ وَخبرِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ، خَبَرًا لِـ "إِنَّ".
قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ} الوَاوُ: للاسْتِئْنافِ، ولفظُ الجلالةِ "اللَّهُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ. وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ "يَعْلَمُ" وهَذِه الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {يَعْلَمُ} فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعلُهُ مُسْتترٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهُ" ـ تَعَالَى، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في محَلِّ الرَّفعِ خَبَرًا للمبتَدَأِ "اللهُ".
قولُهُ: {وَأَنْتُمْ} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "أَنْتُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ لجماعَةِ المُخاطَبينَ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، والخبرُ جَمْلَةُ "لَا تَعْلَمُون"، وهَذِهِ الجُمْلةُ الاسْمِيَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ، معطوفةٌ على الجملةِ الاسْمِيَّةِ قبلَها على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {لَا تَعْلَمُونَ} لَا: نافيةٌ، وَ "تَعْلَمُونَ" فِعْلٌ مُضارِعِ مرْفوعٍ لتجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ خَبَرُ "أَنتم" ومحلُّها الرَّفعُ. واللهُ أعلمُ.