لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ
(13)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} اسْتِئْنَافٌ لِتَوْبِيخِ عُصْبَةِ المُنافقين الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ، وَذَمٌّ لَهُمْ، وَتَكْذيبُهُم وتحدِّيهِم بأَنْ يأْتوا بِمَنْ يشهَدُ لهم عَلى قَذِفِهِمْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةِ عائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها وأَرضاها، ويُصَدِّقُ فِرْيَتَهُمْ التي افتروا بها عَلَيْهَا.
قولُهُ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} لكِنَّهمْ ما اسْتَطَاعُوا أَنْ يأْتوا ولا بشاهِدٍ واحِدٍ يؤكِّدُ افتراءهم، والَّذِي يُخْبِرُ خَبَرًا عَنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةٍ يَجِبُ أَنْ يَسْتَنِدَ فِي خَبَرِهِ إِلَى إِخْبَارِ مُشَاهِدٍ، وَيَجِبُ كَوْنُ الْمُشَاهِدِينَ الْمُخْبِرِينَ عَدَدًا يُفِيدُ خَبَرُهُمُ الصِّدْقَ فِي مِثْلِ الْخَبَرِ الَّذِي أَخْبَرُوا بِهِ، لكِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ اخْتَلَقُوهُ مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ، لِسُوءِ ظَنِّهِمْ، وَلَمْ يَسْتَنِدُوا فيما ادَّعَوْهُ إِلَى مُشَاهَدَةِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَلَا إِلَى شَهَادَةِ مَنْ شَاهَدُوهُ، مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهادَتُهُمْ، وَلذلكَ كَانَ خَبَرُهُمْ إِفْكًا مُفترًى.
وَكانَ هَذَا الْحُكْمُ قدْ تَقَرَّر مِنْ قَبْلُ، فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ بِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً} الآيةَ: 4، ومِنَ المَعْلومِ أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ الكَريمةِ نَزَلَ أَوَاخِرَ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ لهِجْرَةِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، أَوْ أَوَائِلَ سَنَةِ ثَلَاثٍ، وذلكَ قَبْلَ اسْتِشْهَادِ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ. وحَديثُ الإفكِ كانَ أثناءَ العودَةِ مِنْ غَزْوَةِ بني المُصْطَلِقِ، في السَّنةِ السَّادِسَةِ للهِجْرةِ، أي قبلَ ما يقرُبُ مِنْ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ.
قولُهُ: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} جِيءَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ هَذِهِ التي أَفَادَها الضَّميرُ المُنفَصِلُ "هُمْ" وتقديمِ الظَّرف المُضافِ: "عِنْدَ اللَّهِ" والإشارَةُ إليهِمْ باسمِ الإشارةِ المُستعملِ للبَعيدِ للمُبَالَغَةِ في تكْذيبِهِمْ، وَكَأَنَّ كَذِبَهُمْ بِشَنَاعَتِهِ هوَ وَحْدَهُ المَعْدودُ كَذِبًا لا غَيْرَهُ، وهمْ وحدَهُمْ همُ الْكَاذِبونَ لا غيرَهُم، فَإنَّ هَذا الوَصْفَ قدِ انْحَصَرَ فِيهِمْ وَحْدَهُم، وَذَلِكَ لِشَنَاعَةِ ما اخْتَلَقوهُ وفظاعَتِهِ.
قولُهُ تَعَالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} لَوْلَا: حَرْفُ تَحْضِيضٍ بِمَعْنَى هَلَّا، وَقدْ أَفَضْنا في الحديثِ عنْهُ لدى تَفْسِيرِنَا الآيَةَ السَّابِقَةَ قبلَها. وَ "جَاءُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَالْأَلِفُ فَارِقَةٌ. و "عَلَيْهِ" عَلى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "شُهَدَاءَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "بِأَرْبَعَةِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَاءُوا"، وهوَ مُضافٌ، و "شُهَدَاءَ" مَجْرُرٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، وعلامَةُ جَرِّهِ الفتحَةُ نيابةً عَنِ الكَسْرَةِ لأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ كونَّهُ مُؤنَّثًا لفظِيًا على وزن حمراء، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ هيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فلَيسَ لَهَا مَحَلَّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} فَإِذْ: الفاءُ: عاطفةٌ، وَ "إِذْ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمانِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "الْكَاذِبُونَ". فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِهِ. وَهَذَا الكَلَامُ في قُوَّةِ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ. وَ "لَمْ" حرفُ نفيٍّ وقلبٍ وَجَزْمٍ وَ "يَأْتُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لم"، وعلامةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وَواوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ فارقةٌ. و "بِالشُّهَدَاءِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَأْتُوا"، و "الشُّهَدَاءِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بإِضَافَةِ "إِذْ" إِلَيْهَا.
قوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فَأُولَئِكَ: الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "إِذْ". و "أُولَئِكَ" اسمُ إشارةٍ للبعيدِ مَبْنِيٌّ على الكَسْرِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و الكافُ للخِطابِ. و "عِنْدَ" منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ الاعْتِباريَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "الْكَاذِبُونَ" وهوَ مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللَّهِ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "هُمُ" ضَمِيرُ فَصْلٍ للتَّوكيدِ. و "الْكَاذِبُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ، وعلامَةُ رَفْعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ. وَهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ واقعةٌ جَوَابَ "إِذْ" فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَجُمْلَةُ "إِذْ" مَعَ جَوابِها مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "لَوْلَا جَاءُوا" عَلَى كَوْنِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفةً فَلَيْسَ لها محلَّ مِنَ الإعرابِ.