ِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(11)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الإِفْكُ: تَعَمُّدُ الكَذِبِ والافْتِراءِ عَلَى الآخرينَ بالبَاطلِ، وَهُوَ أَشْنَعُ الكَذِبِ، وَعَلَيْهِ قَولُ الشَّاعرِ المُخضْرَمِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبي الصَّلْتِ:
فَسُبْحانَهُ مِنْ كُلِّ إِفْكٍ وَبَاطِلٍ ............... وَكَيْفَ يَلِدْ ذُو العَرْشِ أَمْ كَيْفَ يُولدُ
وَأَفَكَ، وَأَفِكَ الرَّجُلُ: إِذَا كَذَبَ. والإِفْكُ: الْكَذِبُ، وَالْجَمْعُ الأَفَائكُ. والأَفيكَةُ وَهِيَ الكَذْبَةُ الْعَظِيمَةُ. وَرَجُلٌ أَفَّاكَ، وأَفِيكٌ، وأَفُوك: كَذَّابٌ. تَقُولُ: أَفِكَ ـ بكَسْرِ الفاءِ، وأَفَكَ ـ بفَتْحِها: يَأْفِك، إِفْكًا، وأُفُوكًا، وأَفْكًا، وأَفَكًا؛ إِذا كَذَبَ وَقَلَبَ الحَقَائِقَ وَغَيَّرَ وَبَدَّلَ، كَمَا تَقُولُ: أَفَّكَ ـ بالفتْحِ مَعَ التَّشْدِيدِ، وَعلَيْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ العَجَّاجِ:
لَا يأْخُذُ التَأْفِيكُ والتَّحَزِّي ...................... فِينَا، وَلَا قَوْلُ العِدَى ذُو الأَزِّ
فالْهَمْزَةُ وَالْفَاءُ وَالْكَافُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، يَدُلُّ عَلَى قَلْبِ الشَّيْءِ عَلَى عَقِبِهِ وَصَرْفِهِ عَنْ جِهَتِهِ. فَيُقَالُ: أُفِكَ الشَّيْءُ. وآفَكَهُ: إِذَا جَعَلَهُ يَأْفِكُ، قالَ ـ تَعَالَى في الآيَةِ: (28)، مِنْ سُورَةِ الأَحْقافِ: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}، وقُرِئَ: "وَذَلِكَ أَفَكُهم". وَقُرِئَ: "وَذلِكَ إِفْكُهُمْ" وَ "ذلكَ آفَكُهُمْ".
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: يَا لَلأَفِيكةِ وَيَا لِلأَفِيكة، بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا، فَمَنْ فَتَحَ اللَّامَ فَهِيَ لَامُ اسْتِغَاثَةٍ، وَمَنْ كَسَرَهَا فَهُوَ تَعَجُّبٌ كأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّها الرَّجُلُ اعْجَبْ.
والمَأْفوكُ: المَأْفُونُ، وَهُوَ الضَّعيفُ الرأْيِ القَليلُ العَقْلِ. قالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الذّارياتِ بَعْدَ أَنْ أَقْسَمً مُؤكِّدًا مَجِيءَ يَوْمِ الدِّينِ: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ * وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}، الآياتِ: (5 ـ 9)، قالَ مُجاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَيْ: يُؤْفَنُ عَنْهُ مَنْ أُفِنَ. وَقالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ يُصْرَفُ عَنِ الإِيمان مَنْ صُرِف كَمَا قَالَ: {أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا}؛ يَقُولُ: لِتَصْرِفَنَا وَتَصُدَّنَا. والأَفَّاك: الَّذِي يَأْفِكُ النَّاسَ أَي يَصُدُّهُمْ عَنِ الْحَقِّ بِبَاطِلِهِ. والإِفْك أَيْضًا: الإِثم.
والأَفْكُ، بِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ قَوْلِكَ أَفَكَهُ عَنِ الشَّيْءِ يَأْفِكُهُ أَفْكًا: صَرَفَهُ عَنْهُ وَقَلَبَهُ. وَقِيلَ: صَرَفَهُ بالإِفْكِ. وَأَفَكْتُ الرَّجُلَ عَنِ الشَّيْءِ: إِذَا صَرَفْتُهُ عَنْهُ. ومِنْ ذلكَ قَولُهُ ـ تباركَ وتَعَالَى، في الآيةَ: 22. مِنْ سُورةِ الأحقافِ: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}، أَيْ: أَجِئْتَ لتَصْرِفنا عن آلِهَتِنا، وَمنْهُ قَولُ عَمْرِو بْنِ أُذَيْنَةَ، أَوْ عُرْوَةَ بْنُ أُذَيْنةَ:
إِنْ تَكُ عَنْ أَفْضَلِ الْخَلِيفَةِ مَأْ ....................... فُوكًا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا
يَقُولُ الشَّاعِرُ: إِنْ تكُنْ مَصْروفًا ولَمْ تُوَفَّقْ للإِحْسَانِ، فَأَنْتَ فِي قَوْمٍ قَدْ صُرِفُوا مِنْ ذَلِكَ.
وَأَفَكَهُ عَنْ الشَّيْءَ يَأْفِكُهُ أَفْكًا، قَلَبَهُ عَنِهُ وَصَرَفَهُ، قالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الحَاقَّةِ، عَلَى لِسَانِ قومِ عَادٍ حِينَ قَالَ لَهمْ نَبِيُّهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الآيَةَ: (21) قَالُوا: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} الآيةَ: (22)، والأَفْكُ بالْفَتْحِ مصْدَرٌ.
وَأَفَكَهُ: خَدَعَهُ. والمُؤْتفِكاتُ: اسْمُ مَدائنِ لُوطٍ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لانْقِلابِها بالخَسْفِ. قَالَ ـ تباركَ وَتَعَالَى، منْ سُورةِ النَّجْمِ: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى} الآيَةَ: 53، وَقَالَ منْ سُورَةِ التَّوْبَةِ: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الآيةَ: (70)؛ قَالَ أَبو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ في تَفْسيرِ هَذِهِ الآيةِ الكَريمةِ: المؤْتفكات: جَمْعُ مُؤْتَفِكَةٍ، ائْتَفَكَتْ بِهِمُ الأَرْضُ، أَيْ: انْقَلَبَتْ. يُقَالُ: إِنَّهم جَمْعُ مَنْ أَهْلَكَ، كَمَا يُقَالُ لِلْهَالِكِ قَدِ انْقَلَبَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا. وَرَوَى النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَا تَنْزِلَنَّ الْبَصْرَةَ، فإِنَّها إِحْدَى المُؤْتَفِكاتِ، قَدِ ائْتَفَكَتْ بِأَهْلِهَا مَرَّتَيْنِ، وَهِيَ مُؤْتَفِكَةٌ بِهِمُ الثَّالِثَةَ. يَعْنِي أَنَّها غَرِقَتْ بهم مَرَّتَيْنِ وستغرقُ الثّالثةَ، فَقد شَبَّهَ الغَرَقَ بِالانْقِلَابِ. والائْتِفَاكُ في الْعَرَبِيَّةِ: الِانْقِلَابُ، كَما حَصَلَ لِقَرْيَاتِ قَوْمِ لُوطٍ الَّتِي ائْتَفَكتْ بأَهْلِهَا، أَيْ: انْقَلَبَتْ، وَقِيلَ: المُؤْتَفِكاتُ هي المُدُنُ الَّتِي قَلَبَهَا اللَّهُ ـ تَعَالَى عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وَقد ذَكَرَ قِصَّةَ هَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، قَالَ: فَمَنْ أَصَابَتْهُ تِلْكَ الْإِفْكَةُ أَهْلَكَتْهً، يُرِيدُ الْعَذَابَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَقَلَبَ بِهِ دِيَارَهُمْ. يُقَالُ: ائْتَفَكَتِ الْبَلْدَةُ بأَهْلِهَا، أَي: انْقَلَبَتْ، فَهِيَ مُؤْتَفِكَةٌ. وَفِي حَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الخصَّاصِيَةِ: قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِمَّنْ أَنت))؟ قَالَ: مِنْ رَبِيعَةَ، قَالَ: ((أَنْتُمْ تَزْعُمُونَ لَوْلَا ربيعةُ لائْتَفَكت الأَرْضُ بِمَنْ عَلَيْهَا؟)). أَيْ: انْقَلَبَتْ. وَالْمُؤْتَفِكَاتُ ـ أَيْضًا: هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تَخْتَلِفُ مَهَابُّهَا.
وتقولُ: أُفِكَتِ الأَرْضُ، إِذا لَمْ يُصِبْها مَطَرٌ، وَلَيس فيها نَبَاتٌ البَتَّةَ، فهي مَأْفُوكَةٌ. وَالمَأْفُوكُ ـ أَيْضًا: الرَّجُلُ الذي لَمْ يُصِبْ خَيْرًا أَبَدًا.
وَفِي الحَدِيثِ الَّذي رَوَاهُ أَميرُ المُؤمنينَ عليُّ بْنُ أَبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ وكرَّمَ وجهَهُ، قالَ: لَمَّا أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، خَرَجَ إِلَى مِنًى وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا نَسَّابَةً، فَوَقَفَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَمَضَارِبِهِمْ بِمِنًى، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَرَدُّوا السَّلَامَ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَالْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ، وَكَانَ أَقْرَبَ الْقَوْمِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مَفْرُوقٌ، وَكَانَ مَفْرُوقٌ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بَيَانًا وَلِسَانًا، فَالْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ لَهُ: إِلَامَ تَدْعُو يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّهُ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، وَأَنْ تُؤْوُونِي وَتَنْصُرُونِي وَتَمْنَعُونِي حَتَّى أُؤَدِّيَ حَقَّ اللهِ الَّذِي أَمَرَنِي بِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللهِ وَكَذَّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))، قَالَ لَهُ: وَإِلَامَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَتَلَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قولَهُ ـ تَعَالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآيات: (151 ـ 153)، مِنْ سورةِ الأنعام. فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ: وَإِلَامَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَوَاللهِ مَا هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ لَعَرَفْنَاهُ. فَتَلَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قولَهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الآيةَ: 90. فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ: دَعَوْتَ وَاللهِ يَا قُرْشِيُّ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَلَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ. وَقَالَ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ وَاسْتَحْسَنْتُ قَوْلَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ وَيُعْجِبُنِي مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَمْنَحَكُمُ اللهُ بِلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ـ يَعْنِي أَرْضَ فَارِسٍ وَأَنْهَارَ كِسْرَى، وَيُفْرِشَكُمْ بَنَاتِهِمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللهَ وَتُقَدِّسُونَهُ؟. فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ: اللَّهُمَّ وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟. فَتَلَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قولَهُ ـ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} الآياتِ: (45 ـ 47) مِنْ سُورَةِ الأَحْزَاب. ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَابِضًا عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ .. . إِلى آخِرِ الحديثِ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي "دَلَائِلُ النُّبوَّةِ"، وَالخَبَرُ بأكْمَلِهِ في (البِدايَةُ والنِّهَايَةُ) لابْنِ كَثِيرٍ، (ج: 3، ص: 142 ـ 145). والشَّاهدُ فيهِ قولُ مَفْرُوقٍ: (دَعَوْتَ وَاللهِ يَا قُرْشِيُّ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَلَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ). وإنَّما أَتَيْنَا بما تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الحَديثِ للفَائِدَةِ.
والعُصْبَةُ: العَشَرَةُ وَمَا فَوْقَهَا قَلِيلًا، لقَوْلِ أُخوةِ يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} الآيةَ: 14، وكانَ عدَدُهم أَحَدَ عَشَرَ. وَقِيلَ: هيَ مِنَ العَشَرَةِ إِلَى الأَرْبَعِينَ. وَتعني في العَرَبِيَّةِ الجَمَاعَةَ مِنَ الفُرْسَانِ، أَيْ راكبيِ الخيْلِ، كَمَا يُقالُ لِرَاكِبي الإِبِلِ "الرَّكْبِ"، وهَذِهِ تَخُصُّ راكبي الإِبِلِ، وَلَا تُطْلَقُ عَلَى رَاكِبي الخَيْلِ.
ومَا دَامَ أَهْلُ الإِفْكِ عُصْبَةً، إِذًا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يكونَ لهم هَدَفٌ واحِدٌ يسعونَ لتحقيقِهِ، وأَنْ تَكونَ لَهُمْ غَايَةٌ وَاحِدَةٌ يَعْمَلونَ مِنْ أجْلِها، وَهِيَ تَشْويهُ سُمْعَةِ النَّبِيِّ ـ وتَلزيثُ سيرتِهِ، لِيَنْفَضَّ النَّاسُ عَنْهُ، لأنَّ رَئيسَهم عَبْدَ اللهِ ابْنَ أُبيِّ بْنِ سَلُولٍ، وَهُوَ رأْسُ النِّفاقِ وَشَيْخُ المُنَافِقِينَ، كانَ سَيُتَوَّجُ مَلِكًا على يَثْرِبَ كُلِّها في اليومِ الذي وَصَلَها النبيُّ ـ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقدْ أُعِدَّ لهُ التَّاجُ وكُلُّ ما يلزَمُ. فلمَّا دَخَلَ الرَّسولُ ـ عَلَيْهِ صلاةُ اللهِ وسَلامُهُ، أُلغيتْ مَراسِيمُ تَنْصِيبِهِ، فَمَا زالَ حاقِدًا عَلَيْهِ حتّى مَاتَ، وَلِذَلِكَ كانَ يَنْتَهِزُ كلَّ فُرْصَةٍ يمكنُهُ فيها الإساءةُ للنبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وَجَعْلُ النَّاسِ يَنْفَضُّونَ عنْهُ، وَمَعَ أَنَّهُ أَظْهَرَ الإيمانَ بِالْنَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقدَ كانَ يبطِنُ الكُفْرَ، وإنْ كانَ يَعْلَمُ في قَرَارَةِ نَفْسِهِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ مِنَ اللهِ ـ تَعَالى. فَقَدْ أَوْصَى ابْنَهُ عِنْدَمَا حَضَرتْهُ الوفاةُ، أَنْ يُكَفِّنَهُ بِبُرْدَةِ النَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ وآلِهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لَعَلَّهُ يَنْجًو مِنَ العَذابِ، أَوْ يخَفَّفُ عَنْهُ. فَلَمَّا سَمِعَ بأَنَّ السَّيِّدَةَ عائشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، تخلَّفتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ أَثناءَ عودَتِهِمْ مِنْ غَزْوَةِ بَني المُصْطَلِقِ، إلى أَنْ عَادَ بِهَا الرَّجُلُ المُكَلَّفُ بِتقَفِّي آثارِ القافِلَةِ، اغْتَنَمَ اللعينُ هَذِهِ الفُرْصَةَ، وأَخَذَ يَنْسُجُ حَوْلَها الإِشاعَاتِ، يُعَاوِنُهُ في نَشْرِها عُصْبَةٌ مِنَ الحاقدينَ أَمْثالَهَ. حَتَّى أَثَّرَ ذَلِكَ في نُفُوسِ بَعْضِ المُؤْمِنِينَ.
وَالقِصَّةُ كَمَا رَوَتْها أُمُّ المُؤمنينَ الصِّدِّيقةُ ابْنَةُ الصِّديقِ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا وأرضاهُما، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، وَأَيُّهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَهُ، قَالَتْ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَكُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ، وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ، وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلَيْ، فَلَمَسَتْ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظِفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، قَالَتْ: وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ بِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ عَلَيْهِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَهْبُلْنَ، وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وَحَمَلُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ، وَسَارُوا وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ، وَلَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلي الَّذي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ. فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ في مَنْزِلَةٍ، غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَني، فَخَمَرْتُ وَجْهِي بِجِلْبابي، واللهِ مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ، وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، وَهَوَى حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا، فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ مُوغِرَيْنَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، وَهُمْ نُزُولٌ، قَالَتْ: فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ في شَأْني، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَ الْإِفْكِ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، قَالَ عُرْوَةُ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ كَانَ يُشَاعُ وَيُتَحَدَّثُ بِهِ عِنْدَهُ فَيُقِرُّهُ، وَيَسْتَمِعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ، وَقَالَ عُرْوَةُ أَيْضًا: لَمْ يُسَمَّ مِنْ أَهْلِ الإفكِ إِلَّا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، فِي نَاسٍ آخَرِينَ لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُمْ عُصْبَةٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ ـ تَعَالَى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ، قَالَ عُرْوَةُ: وكانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ، وَتَقُولُ: إِنَّهُ الَّذِي قَالَ:
فإن أبي ووالده وَعِرْضِي ............................... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
قَالَتْ السَّيِّدةُ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ، لَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي وَجَعًا، إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: ((كَيْفَ تِيكُمْ))؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَذَلِكَ الَّذي يَرِيبُنِي، وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ حِينَ نَقَهْتُ، فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَكَانَ مُتَبَرَّزَنَا، وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ في التَّنَزُّهِ قِبَلَ الْغَائِطِ، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ، أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ، وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّديقِ، وَابْنُها مِسْطَحُ بْنُ أَتاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقَالَتْ: أَيُّ هِنَتَاهُ، أَوَ لَمْ تَسْتَمِعِي مَا قَالَ؟ قَالَتْ فَقُلْتُ: وَمَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، قَالَتْ فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: ((كَيْفَ تِيكُمْ))؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ: وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسَتَيْقَنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، قَالَتْ: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهُ مَاذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّة هَوِّني عَلَيْكِ، فَوَالله لَقَلَّ مَا كَانَتِ امْرَأَةً قَطُّ وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا، قَالَتْ فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ، أَوَ لَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي، قَالَتْ: وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، حِينَ اسْتَلْبَثَ الوَحْيَ يَسْأَلهُمَا، ويَسْتَشِيرُهما في فِرَاقِ أَهْلِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ أُسَامَةُ: أَهْلَكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلَيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْكَ في أَمْرِ النِّساءِ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقُكَ الخَبَرَ، قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَرِيرَةَ، فَقَالَ: أَيْ بِرَيْرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يُرِيبُكِ؟ قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِضُهُ، غَيْرَ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ يَومِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ يَوْمِهِ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ في أَهْلِي وَوالله مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي))، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْذُرُكَ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ: وَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ بْنِ ثابتٍ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ فَخْذِهِ، وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، قَالَتْ السَّيِّدةُ عائشةُ: وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدٍ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ، لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطِكَ مَا أَحْبَبْتُ أَنْ يُقْتَلَ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ـ وَهُوَ ابْنُ عَمٍّ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فقال: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلُنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، قَالَتْ: فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخْفِضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ، قَالَتْ: فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، قَالَتْ: وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، قَالَتْ: وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، حَتَّى إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنَا أَبَوَايَ جَالِسَانِ عِنْدِي، وَأَنَا أَبْكِي، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَذِنَتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخْلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدي مُنْذُ قِيلَ فيَّ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: ((أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ))، قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَقَالَتَهُ قَلُصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أَحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ: لِأَبِي أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا قَالَ، فَقَالَ أَبِي: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجيبي رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ أُمِّي: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ كَثِيرًا، إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ في أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، لَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ واللهُ يَعْلَمُ إِنِّي بَريئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي، فَوَاللهِ لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا أَبَا يُوسُفَ حِينَ قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ} يُوسُفَ: 18، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ وَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا ـ واللهِ أَعْلَمُ أَنِّي حِينَئِذٍ بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، لَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ بها، فَوَالله مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخْذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرَ مِنْهُ الْعَرَقُ مِثْلَ الْجُمَّانِ ـ وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذي أُنْزِلَ عَلَيْهِ فيَّ، قَالَتْ: فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بها أَنْ قَالَ: ((أَبْشِري يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ))، قَالَتْ: فَقَالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلَيْهِ. فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَقْوَمُ إِلَيْهِ، فَإِنِّي لَا أَحْمِدُ إِلَّا اللَّهَ، قَالَتْ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ ـ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي بَرَاءَتِي؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ ـ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة النّور، الآيةَ: 22، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَّعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتي كَانَ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَدًا، قَالَتْ السِّيِّدةُ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَأَلَ السَّيِّدةَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، عَنْ أَمْرِي فَقَالَ لِزَيْنَبَ: مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمَتُ إِلَّا خَيْرًا، قالتْ: السِّيِّدةُ عائشةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، وَهِيَ الَّتي كانتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، قَالَتْ: وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثٍ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ، قَالَتْ السَّيِّدةُ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ الذي قِيلَ فِيهِ مَا قِيلَ لَيَقُولُ ـ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا كَشَفْتُ عَنْ كَنَفِ أُنْثَى قَطُّـ قَالَتْ: ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سبيل اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ. أخرجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ برقم: (4750)، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبُ الإيمانِ" عَنْ يَحْيَى بْنِ بكيرٍ بِهِ. وَالبَغَوِيُّ في تَفْسيرِهِ/إِحْيَاء التُّراث: (3/389 ـ 391).
قولُهُ: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} المُخاطَبُ هُنَا هُوَ سَيِّدُنا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأُمُّ المُؤْمِنينَ السَّيِّدَةُ عائِشَةُ، وسَيِّدُنا أَبوُ بَكْرٍ، وَصَفْوانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُمْ أَجْمعينَ، وَذَلكَ تَسْلِيَةً لِنُفُوسِهِمْ، مما داخَلَها مِنْ حُزنٍ بما رَدَّدَهُ المُنافقونَ مِنْ حَدِيثِ الإِفْكِ، والضَّميرُ في قولِهِ ـ تَعَالَى: "تحْسَبُوهُ" عائِدٌ علَيْهِ، أَي على حديثِ الإِفْكِ.
قولُهُ: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لما سَيَجْزيكُمُ اللهُ بِهِ مِنْ عَظِيمِ الثَّوَابَ على ما احْتَمَلْتُمُوهُ مِنْ الأَذَى، وهوَ خيرٌ لكمْ أَيْضًا بأنْ ظَهَرَتْ كَرَامَتُكم عَلَى رَبِّكمْ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وعلوُّ مَنْزِلَتِكمْ عِندَهُ إذْ أَنْزَلَ ثماني عَشَرَةَ آيَةً في براءتِكمْ وَنَزَاهَةِ سَاحَتِكُمْ، وتَعْظِيمِ شَأْنِكُمْ والتَّشْديدِ بِالْوَعِيدِ لِمَنْ تَكَلَّمَ فِيكُمْ، وحاولَ النيْلَ مِنْ سُمْعَتِكم، والثَّناءِ عَلَى مَنْ ظَنَّ الخَيْرَ بكُم.
قولُه: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} المعنى: أَنَّهُ لِكُلِّ واحدٍ مِنْ أُولئكَ الْعُصْبَةِ الْأَفَّاكَةِ الكَذَّابَةِ المُفتَرِيَةِ مِنَ الْإِثْمِ عَلَى قَدْرِ مَا خَاضَ فِي ذَلِكَ الجُرمِ الفظيعِ والفعلِ الشَّنيع، جَزَاءَ مَا اجْتَرَحَ مِنَ الذَّنْبِ العَظِيمِ والإِفْكِ الفَظيعِ، وذلك جَزَاءً وِفاقًا.
قولُهُ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ، أَيْ: تَحَمَّلَ مُعْظَمَهُ فَبَدَأَ بِالْخَوْضِ فِيهِ، وقال الضَّحَّاكُ: قَامَ بِإِشَاعَةِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ السَّيِّدةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّها قَالَتْ: "وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ": هُوَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ. فَإِنَّهُ هُوَ الذي بَدَأَ بِهِ وَأَذَاعَهُ بَيْنَ النَّاسِ حقْدًا على سيِّدِنا رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإِمْعانًا في عَدَاوتِهِ لَهُ. وَفي التَّعبيرِ عَنْهُ بالاسْمِ المَوصولِ "الذي" وَتَكْريرِ الإِسْنَادِ إِلَيْهِ، مِنْ تَهْويلِ ما يَنْتَظِرُهُ مِنَ العَذابِ مَا لَا يَخْفَى. وَأمَّا العَذَابُ العَظِيمُ الَّذي يَنْتَظِرُهُ فهُوَ: نَارُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ. إِضافةً إلى الجَلْدِ في الدُّنْيَا، فَقَدْ جُلِدُوا جميعًا، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ وَصَارَ ابْنُ أُبيٍّ مَطْرُودًا مَشْهُودًا عَلَيْهِ بِالنِّفاقِ.
أَمَّا حَسَّانُ بْنِ ثابتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أَتاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَقَدْ عَمِيَ بَصَرُهُما، وَشُلَّتْ يَدا حَسَّانَ.
وَفي تَنْكِيرِ "العَذَابِ"، وَوَصْفِهِ بـ "العَظِيم" ما لا يَخْفَى مِنْ تَهْويلِ الخَطْبِ علَيْهِ، وتَجْسيمِ ما يَنْتَظِرُهُ مِنْهُ.