الموسوعةالقرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ قراءات ـ أحكام ـإعراب ـ تحليل لغة
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزء الثامن عشر ـ المجلد السادس والثلاثون
سورةُ النّور (24) الآية: 5
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} لقَدْ أَجْمَعَ عُلماءُ الْمُسْلِمِينَ ومُفَسِّروا القرآنِ العظيمِ عَلَى أَنَّ قَذْفَ الذُّكُورِ لِلذُّكُورِ، أَوِ الْإِنَاثِ لِلْإِنَاثِ، أَوِ الْإِنَاثِ لِلذُّكُورِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابقةُ، مِنْ قَذْفِ الذُّكُورِ لِلْإِنَاثِ; لِلْجَزْمِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْجَمِيعِ. واخْتَلَفُوا في حُكْمِ هَذَا الاسْتِثْناءِ هُنا: فقال الكثيرُ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ راجعٌ إلى رَدِّ الشَّهَادَةِ وَالفِسْقِ، وقالوا: إِذَا تاب القاذِفُ زَالَ فِسْقُهُ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. فإنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا جَاءَ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَاتٍ، أَوْ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَاتٍ، فإَنَّهُ يَرْجِعُ لِها جَمِيعِهَا إِلَّا بدَلِيلٍ مِنْ نَقْلٍ أَوْ عَقْلٍ يُخَصِّصُهُ بِبَعْضِهَا، وَلِذَلكَ فلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا قالَ: هَذِهِ الدَّارُ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَبني فلان وبني فلان، إِلَّا الْفَاسِقَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْوَقْفِ الْفَاسِقَ مِنَ الْجَمِيعِ لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْجَمِيعِ،
وذلكَ خلافًا لأبي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، فَلَا يَخْرُجُ عِنْدَهُ إِلَّا فَاسِقُ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ عِنْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا لِجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي هِيَ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا فَقَدْ زَالَ عَنْهُمُ الْفِسْقُ، وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، وَلَوْ تَابَوا وَأَصْلَحَوا، وَصَارَ أحَدُهمْ أَعْدَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وذلكَ لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَهُ لِلْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ.
وَمِمَّنْ قَالَ كَقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْقَاضِي شُرَيْحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَكْحُولٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ جَابِرٍ.
وَقَالَ الإمامُ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِلَّا إِذَا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ، وبه قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَالجُمْهُورُ مِنَ الفُقهاءُ بما في ذلكَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ مالكُ والشافعيُّ وأحمدُ: على أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْآيَةِ رَاجِعٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} وَأَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً فَلَا يَرْجِعُ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ; لِأَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ.
فَقد تَحَصَّلَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} يَرْجِعُ لَهَا الِاسْتِثْنَاءُ بِلَا خِلَافٍ، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى الَّتِي هِيَ: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} لَا يَرْجِعُ لَهَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} يَرْجِعُ لَهَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، ومِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، والَّذِي يَظْهَرُ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَاتٍ أَوْ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَاتٍ هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ العُلَماءِ، كَابْنِ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْغَزَالِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْآمِدِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْآتِي بَعْدَ مُتَعَاطِفَاتٍ هُوَ الْوَقْفُ، وَلَا يُحْكَمُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَلَا إِلَى الجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ.
قولُهُ: {وأَصْلحوا} أيْ: أَظْهَرُوا تَوْبَتَهم، وأمْسَكوا عَلَيْهم أَلْسِنتهمْ، ولم يَعودوا إِلى قَذْفِ المُحْصنَاتِ، وأتَتْ عَلى تَوْبَتِهِ مُدَّةً عُرِفَ فِيها بالصَّلاحِ، كَمَا اشْتُهِرَ بِهَتْكِ أَعْرَاضِ المُسْلِمينَ.
قولُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ: لِمَن تابَ منهم، و "رَّحِيمٌ" بِمَن ماتَ منهم على التوبةِ. فقد أَمَرَ اللهُ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ لِأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، كَمَا قَالَ فِي الآيَةِ 160، مِنْ سورةِ الْبَقَرَةِ: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. صدق اللهُ العظيمُ.
قولُهُ تَعالى: {إِلَّا الَّذِينَ} إِلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ. و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ للجَمْعِ المُذَكَّرِ، مبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الاسْتِثْنَاءِ. وقيلَ: بِأَنَّهُ في محلِّ الجر بِدَلًا مِنَ الضَّميرِ في "لَهُمْ" مِنَ الآيةِ التي قبلَها. وَقَدْ أَوْضَحَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ فقالِ: وَحَقُّ المُسْتَثْنَى عِنْدَهُ ـ أَيْ عندَ الإمامِ الشافعِيِّ، أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بَدَلًا مِنْ "هُمْ" في "لَهُمْ"، وَحَقُّهُ عِنْدَ أَبي حَنِيفَةَ أَنْ يَكونَ مَنْصُوبًا؛ لِأَنَّهُ عَنْ مُوْجَبٍ. والَّذي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الآيَةِ وَنَظْمُها أَنْ تَكونَ الجُمَلُ الثَلاثُ بِمَجْمُوعِهِنَّ جَزَاءَ الشَّرْطِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ قَذَفَ المُحْصَنَاتِ فَاجْلِدوهم، وَرُدُّوا شَهَادَتَهم، وفَسِّقوهم، أَيْ: فاجْمَعُوا لَهُمْ الجَلْدَ والردَّ والتفسيقَ، إلَّا الذين تَابُوا عَنِ القَذْفِ وأَصْلَحُوا فإنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُمْ فَيَنْقَلِبونَ غَيْرَ مَجْلُودِينَ وَلَا مَرْدودين ولا مُفَسَّقين.
قال الشيخُ أبو حَيَّانَ الأنْدَلُسِيُّ: وَلَيْسَ ظاهرُ الآية يَقْتَضي عَوْدَ الاسْتِثْناءِ إِلى الجُمَلِ الثَّلاثِ، بَلِ الظَّاهرُ هُوَ مَا يَعْضُدُهُ كَلَامُ العَرَبِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلى الجُمْلَةِ الَّتي تَليها.
ويجوزُ أَنْ يكونَ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابتداءِ، وخبرُهُ الجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ ـ تعالى: "فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ". وَاعْتُرِضَ بخُلُوِّها مِنْ رَابِطٍ. وَأُجُيبَ بِأَنَّهُ مَحْذوفٌ، أَيْ: غَفُورٌ لَهُمْ.
واخْتَلَفُوا أَيْضًا في هَذَا الاسْتِثْنَاءِ: هَلْ هُوَ مُتَّصِلٌ أَوْ مُنْقَطِعٌ؟ وأَن يكونَ منقطِعًا ضَعيفٌ جِدًا، فالأرجحُ اتِّصالُهُ. لأَنَّ المُسْتَثْنى مِنْهُ حقيقةً هو {الذينَ يَرْمُونَ}، والتائبونَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ لَكِنَّهم مُخَرَّجُونَ مِنَ الحُكْمِ. وَهَذَا شَأْنُ المُتَّصَلَ. وَقيلَ: هُوَ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ إِخْرَاجُهُ مِنَ الحُكْمِ السَّابِقِ، بَلْ قُصِدَ بِهِ إِثْباتُ أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ التَّائبَ لَا يَبْقَى فَاسِقًا؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ في صَدْرِ الكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ فَاسِقٍ. وهو تَوْجِيهٌ ضَعِيفٌ جِدًّا ـ كما ترى، إِذْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يكونَ كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ مُنْقَطِعًا، لِجَرَيانِ التَّوْجِيهِ المَذْكُورِ فِيهِ.
قوْلُهُ: {تَابُوا مِنْ بعدِ ذلكَ} تابوا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ، و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تابوا". و "بَعْدِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ. و "ذَلِكَ" ذا: اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، واللامُ للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. والجملةُ صِلَةُ المَوْصُولِ "الذينَ" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {وأَصْلحوا} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ، والجملةُ معطوفةٌ على جملةِ "تَابُوا" على كونِها صلةَ الاسْمِ الموصولِ فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الفاءُ: تَعْلِيلِيَّةٌ. و "إن" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للتَّوكيدِ، ولفظُ الجلالةِ "الله" اسْمُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "غَفُورٌ" خَبَرُ "أَنَّ" الأَوَّلُ. و "رَحِيمٌ" خَبَرُها الثاني. وهَذِهِ الجُمْلَةُ مِنْ "أَنَّ" واسْمِها وخَبَريها مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا فيس لها مَحَلٌّ مِنَ الإعْرابِ.