وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
(20)
قولُهُ ـ تعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أَيْ: وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُم، وَلَوْلاَ رَحْمَتُهُ بِكُمْ، بَعْدَ الَّذي قِيلَ مِنَ قَذْفِ السيِّدَةِ عائشةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، لَعَجَّلَ لكمُ العَذَابَ، وأَهْلَكَكُم عِقابًا لَكُمْ عَلَى مَا قُلْتُمْ في أَمْرِ أُمِّ المُؤمنينَ السَّيِّدَةِ عائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، ولِحُبِّكُمْ أَنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ في المُؤْمِنِينَ وتنتشِرُ.
وَهَذِهِ ثَالِثُ مَرَّةٍ كَرَّرَ فِيهَا الحقُّ ـ تباركَ وتَعَالى: "وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ" وَحَذَفَ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ جَوَابَ (لَوْلَا) لِتَذْهَبَ النَّفْسُ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فِي تَقْدِيرِهِ بِحَسَبَ الْمَقَامِ، وقيلَ غيرُ ذَلِكَ كما سنوضِّحُهُ في مَبْحَثِ الإعرابِ ـ إِنْ شاءَ اللهُ تَعَالى.
قولُهُ: {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وَلَكِنَّهُ تَعَالَى رُؤُوفٌ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ بِهِمْ، فَتَابَ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَطَهَّرَ مَنْ طَهَّرَ مِنْهُمْ بِالْحَدِّ الَّذِي أُقِيمَ عليهم، وَلَمْ يُعاقِبْكمْ عَلَى مَا قُلْتُمُوهُ في أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكمْ الكَريمِ، أُمِّ المُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، رَؤُوفٌ بِعِبَادِهِ، رَحِيمٌ بِهِمْ.
قَالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهَا: (يُرِيْدُ مُسْطَحَ وَحَسَّانَ وَحَمْنَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ). وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ عَامًّا.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَصْفَ اللَّهِ ـ تعالى، نَفْسَهُ بِأَنَّهُ تَوَّابٌ حَكِيمٌ لِلْمُنَاسَبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَذَكَرَ هُنَا بِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، لِأَنَّ هَذَا التَّنْبِيهَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ التَّذْيِيلُ فِيهِ انْتِشَالًا لِلْأُمَّةِ مِنِ اضْطِرَابٍ عَظِيمٍ فِي أَخْلَاقِهَا وَآدَابِهَا، وَانْفِصَامٌ في عُرَى وَحْدَتِهَا، فَأَنْقَذَهَا اللهُ مِنْ ذَلِكَ رَأْفَةً مِنْهُ وَرَحْمَةً لِأَفرادِهَا وَجَمَاعَاتِهَا، وَحِفْظًا لِأَوَاصِرِ الأُخُوَّةِ بينَ أَفرادِهَا.
وَقد ذَكَرَ وَصْفَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ هُنَا لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِنْقَاذُهُ إِيَّاهُمْ مِنْ سُوءِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، تِلْكَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي انْطَوَتْ عَلَيْهَا ضَمَائِرُ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ إِنْقَاذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ التَّخَلُّقِ بِهَا رَأْفَةً بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَرَحْمَةً لَهُمْ بِالثَوَابِ لِمَنْ تَابِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ آخِرُ الْآيَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ الْإِفْكِ عَلَى السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وقد نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً عَلَى النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَلَاهَا عليها حِينَ نُزُولِهَا عليْهِ وَهُوَ فِي بَيتِ أَبي بكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ وأرضاهُ، وقدْ تقدَّمَ ذلكَ.
قولُهُ تعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} الوَاوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "لَوْلَا" حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ لمجيءٍ اسْمٍ بعدَها. و "فَضْلُ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ، مُضافٌ، وَلفظُ الجلالةِ "اللَّهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَخَبَرُ المُبْتَدَأِ مَحْذوفٌ وُجُوبًا تَقْديرُهٌ: مَوْجُودَاتٌ. و "عَلَيْكُمْ" عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "فَضْلُ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ، والميمُ: علامةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "وَرَحْمَتُهُ" الواوُ: للعَطْفِ، و "رَحْمَتُهُ" مَعْطُوفٌ عَلَى "فَضْلُ" مَرْفُوعٌ مِثْلُهُ. وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
وجَوَابُ "لولا": يَجُوزُ أَنْ يَكونَ {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} الآيَةَ: 21، الَّتي تَلي هَذِهِ الآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ جَوَابُها: لَكَانَتِ الْفَاحِشَةُ تَشِيعُ فَتَعْظُمُ الْمَضَرَّةُ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ جَوَابَهُ مَحْذُوفٌ وَكَأَنَّهُ ـ تَعَالى، قَالَ: لَهَلَكْتُمْ أَوْ لَعَذَّبَكُمُ اللَّهُ وَاسْتَأْصَلَكُمْ، لَكِنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ. لِأَنَّ قَوْلَهُ في الآيَةِ: 21، التَّالِيَةِ: {مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} مِنْ بَعْدِ قَولِهِ: "وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ" جاءَ كَالْمُنْفَصِلِ مِنَ الْأَوَّلِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لَهُ، خُصُوصًا وَقَدْ وَقَعَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ كَلَامٌ آخَرُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْلَا إِنْعَامُهُ بِأَنْ أَبْقَى وَأَمْهَلَ وَمَكَّنَ مِنَ التَّلَافِي لَهَلَكُوا، لَكِنَّهُ لِرَأْفَتِهِ لَا يَدَعُ مَا هُوَ لِلْعَبْدِ أَصْلَحُ، وإِنْ جَنَى العبدُ عَلَى نَفْسِهِ.
قولُهُ: {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} الواوُ: للعطْفِ، وَ "أَنَّ" حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للتوكيدِ. ولفظُ الجلالةِ "اللَّهَ" اسْمُها مَنْصوبٌ بِها، و "رَءُوفٌ" خَبَرُها الأَوَّلُ مَرْفوعٌ بِها. و "رَحِيمٌ" خَبَرُ الثاني مَرفوعٌ بِها أَيْضًا. والجُمْلَةُ مِنْ "أَنَّ" واسْمِها وخبرِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَعْطُوفٍ عَلى "فَضْلُ"؛ أَيْ: وَكَوْنُ اللهِ رَؤُوفًا رَحِيمًا مَوْجُودًا. واللهُ أَعلمُ.