قولُهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ} إِنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوْكِيدِ. وَ "الَّذِين" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. وَفِي خَبرِهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُما: أَنَّهُ "عُصْبةٌ" وَ "مِنْكُمْ" صِفَتُهُ. قَالَ أَبُو البَقاءِ العكبُري: وَبِهِ أَفَادَ الخَبَرَ. وَالثاني: أَنَّ الخَبَرَ هو الجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: "لَاَ تَحْسَبُوهُ" وَيَكونُ "عُصْبَةٌ" بَدَلًا مِنْ فَاعِلِ "جاؤوا". وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ فِعْلَ "الَّذينَ". وَهَذَا أَنْسَقُ في المَعْنَى وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ أَنْ يَكونَ "عُصْبَةٌ" خَبَرَ "إنَّ". فَقَدْ أَوْقَعَ خَبَرَ "إِنَّ" جُمْلَةً طَلَبِيَّةً وَهُوَ غَيْرُ جائز، إِلَّا أَن َّ الشَّيْخَ أَبَا حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيَّ أَوْرَدَهُ عَنْهُ هَكَذَا وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ. وَتَقْديرُ ابْنِ عَطِيَّةَ ذَلِكَ المُضَافَ قَبْلَ المَوْصُولِ ليَصِحَّ بِهِ الترَّكْيبُ الكَلَامِيُّ؛ إِذْ لَوْ لَمْ يُقَدِّرْ لَكَانَ الترّكيبُ: لَا تَحْسَبوهُمْ. وَلَا يَعُودُ الضَّميرُ في "لَا تَحْسَبُوهُ" ـ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، عَلَى الإِفْكِ لِئَلَّا تَخْلُوَ الجُمْلَةُ مِنْ رابطٍ يَرْبِطُها بالمُبْتَدَأِ. وَعِنْدَ غَيْرِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الإِفْكِ، أَوْ عَلَى القَذْفِ، أَوْ عَلَى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِنْ "جَاؤُوا" أَوْ عَلى مَا نَالَ المُسْلِمِينَ مِنَ الغَمِّ. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} جَاءُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِواوِ الجماعةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفريقِ. وَ "بِالْإِفْكِ" البَاءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَاءَ"، و "الْإِفْكِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "عُصْبَةٌ" خَبَرُ "إِنَّ" مَرْفوعٌ بِهَا، أَوْ بَدَلًا مِنْ فَاعِلِ "جاؤوا". وَقَدْ تَقَدَّمَ آنفًا في ذَلِكَ بَيَانٌ. وَ "مِنْكُمْ" مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "عُصْبَةٌ"، وَكَافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ، والميمُ عَلَامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ "الذين" فليسَ لها مَحَلَّ مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} لَا: ناهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَحْسَبُوهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَا" النَّاهِيَةِ، وَعَلَامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُّونِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ. وَواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعولِيَّةِ مَفعولًا أَوَّلَ. و "شَرًّا" مَفْعُولُ "حَسِبَ" الثاني. و "لَكُمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "شَرًّا"، والكافُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ عَلَامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِكُلِّ مَنْ تَأَسَّفَ بِذَلِكَ الإِفْكِ.
قَوْلُهُ: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} بَلْ: حَرْفُ عَطْفٍ وَإِضْرَابٍ. و "هُوَ" ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. وَ "خَيْرٌ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ. وَ "لَكُمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَيْرٌ". وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ قبلَها عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا} اللامُ: حَرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بخبَرٍ مُقَدَّمٍ، وَ "كُلِّ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ. وَ "امْرِئٍ" مَجْرورٌ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. و "مِنْهُمْ" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لـِ "امْرِئٍ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ عَلَامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ، مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى كَوْنِهِ مُبْتَدَأً مُؤَخَرًا. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فليسَ لها مَحَلَّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} اكْتَسَبَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ. وَفَاعِلُهُ، ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "امْرِئٍ". وَ "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنَ العَائدِ المحْذوفِ. وَ "الْإِثْمِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "ما" المَوْصُولةِ، وَالعائِدُ مَحْذُوفٌ والتَّقْديرُ: مَا اكْتَسَبَهُ.
قولُهُ: {وَالَّذِي} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. و "الذي" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، عَلَى كونِهِ مُبْتَدَأً أَوَّل. خَبَرُهُ جُمْلَةُ "لَهُ عَذابٌ عَظيمٌ"، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} تَوَلَّى: فِعْلٌ ماضٍ مَبنيِّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لِتَعَذُرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يعودُ على "الذي". و "كِبْرَهُ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "مِنْهُمْ" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فَاعِلِ "تَوَلَّى"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِخَرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذَكَّرِ. وجُملةُ "تولَّى" الفعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الَّذي" فَلَا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لَهُ: اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ مَحذوفٍ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "عَذَابٌ" مُبْتَدَأٌ ثانٍ مُؤَخَّرٌ. و "عَظِيمٌ" صِفَةٌ لِـ "عَذَابٌ" مرفوعٌ مِثْلُهُ. وَالْجُمْلَةُ مِنَ المُبْتَدَأِ الثاني وَخَبَرِهِ خَبَرٌ للمُبْتَدَأِ اَلأَوَّلِ، أَعْني الاسمَ المَوْصُولَ "الذي" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ الْعَامَّةُ: {كِبْرَهُ} بِكَسْرِ الكافِ، وَقَرَأَ الحَسَنُ، ومجاهدٌ، والزُّهْرِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وأَبُو رَجاءٍ النَّقَّاشُ، وأَبُو البَرَهْسَمِ، وَابْنُ أَبي عَبْلَةَ، وَمُجاهِدٌ، وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: "كُبْرَهُ" بِضَمِّها، وَرُوِيَتْ أَيْضًا عَنْ أَبي عَمْروٍ، وَالكِسَائِيِّ، وقالَ: هِيَ لُغَةٌ في مَصْدَرِ كَبُرَ الشَّيْءُ، أَيْ: عَظُمَ، وَلَكِنْ غَلَبَ في الاسْتِعْمَالِ أَنَّ المَضْمُومَ مُسْتَعْمَلٌ في السِّنِّ والمَكانَةِ، فَيُقالُ: هُوَ كُبْرُ القَوْمِ ـ بالضَّمِّ، أَيْ: أَكْبَرُهُمْ سِنًّا، أَوْ مَكَانَةً. وفي الحديثِ الشَّريفِ في قِصَّةِ "مُحَيِّصَةَ" و "حُوَيِّصَةَ" الكُبْرَ الكُبْر" وَقِيلَ: "كُبرَه" ـ بالضَّمُّ: مُعْظُمُ الإِفْكِ، و "كِبرَهُ" بِالْكَسْرِ البُداءَةُ بِهِ. وَقِيلَ: بالكَسْرِ الإِثمُ، واللهُ أعلمُ.