الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
(26)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} تأكيدٌ لبراءَةِ السَّيِّدَةِ عائشَةَ أُمِّ المُؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، يُبَيِّنُ اللهُ ـ تَعَالى، فيهِا اسْتِحالَةَ وُقُوعِ مِثْلِ هَذِهِ الجريمةِ الفِرْيةِ الشَّنيعَةِ عليْها رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وأرضاها، بالظَّنِّ والوَهْمِ، كما أَنَّها تَنْويهٌ بِطَهَارَتِها وَطِيبِ مَعْدِنِها، فَقَدْ قَسَمَ اللهُ "الْخَبِيثاتُ" مِنَ النِّسَاءِ، "لِلْخَبِيثِينَ" مِنَ الرِّجَالِ، وَ "الْخَبِيثُونَ" مِنَ الرِّجالِ "لِلْخَبِيثاتِ" مِنَ النِّساءِ، فإنَّ الإيمانَ باللهِ يَقْضِي بأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، يَعْلَمُ حقائقَ الأشْياءِ وماهيَّتِها وما يكونُ منها مِنْ عملٍ في المُسْتقبلِ قبلَ أَنْ يخلقها، وأَنَّ كلَّ شيْءٍ مَقسومٌ ومُقَدَّرٌ مِنَ الأَزَلِ
نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ وَقَالَ: أَيْ رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ، قَذَفَهَا الرَّحِمُ دَمًا وَلَمْ تَكُنْ نَسَمَةً، وَإِنْ قَالَ: مُخَلَّقَةٌ، قَالَ الْمَلَكُ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، أَشَقِيٌ أَمْ سَعِيدٌ؟ مَا الْأَجَلُّ مَا الْعَمَلُ مَا الرِّزْقُ وَبِأَيِّ أَرْضٍ يَمُوتُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ فَإِنَّكَ تَجِدُ فِيهَا كُلَّ ذَلِكَ، فَيَذْهَبُ فَيَجِدُهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَيَنْسَخُهَا، فَلَا يَزَالُ مَعَهُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى آخَرَ صِفَتِه. "نَوَادِرُ الأُصُولِ في مَعْرِفَةِ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، النِّسْخَةُ المُسْنَدَةُ، ط ـ أُخْرَى: (ص: 288)، وَأخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ أَبي حَاتِمٍ في "تفسير القرآن العظيم": (8/2474، برقم: 13781)، بنحوه، وَالبَغَوِيِّ في تفسيرِهِ: "مَعَالِمُ التَنْزيلِ": (5/366).
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَالَ: عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ، بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فَقَالَ: يَا رَبِّ, مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ، مَجَّتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإِنْ قَالَ: مُخَلَّقَةٌ, قَالَ: يَا رَبِّ فَمَا صِفَةُ هَذِهِ النُّطْفَةِ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ مَا رِزْقُهَا؟ مَا أَجَلُهَا؟ أَشَقِيُّ أَوْ سَعِيدٌ؟ قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ فَاسْتَنْسِخْ مِنْهُ صِفَةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ قَالَ: فَيَنْطَلِقُ الْمَلَكُ فَيَنْسَخُهَا, فَلَا تَزَالُ مَعَهُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى آخِرِ صِفَتِهَا). وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: تَامَّةٌ , وَغَيْرُ تَامَّةٍ. تفسيرُ الطَّبَرِيِّ "جامعُ البيانِ": (17/117)، قَالَ الحَافِظُ في (فَتْحِ الباري): (1/419): إِسْنَادُهُ صَحيحٌ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ لَفْظًا مَرْفُوعًا حُكْمًا. قُلْتُ: لِأَنَّهُ مَا كانَ لِابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يَتحدَّثَ بهَذِهِ المَعْلومَةِ لَوْ لمْ يَسْمَعْها مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، لكِنَّهُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، غالِبًا ما كانَ يُحَدِّثُ النَّاسَ دونَ أنْ يرَفَعَ الحَديثَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ حرفًا فأتَى بمعناهُ، فيدْخُلَ تحتَ قولِهِ ـ عليْهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). أوْ كما قالَ، فكانَ لا يقولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إلَّا إِذا كانَ مُتَأَكِّدًا تمامًا أَنَّهُ لمْ يَنْسَ حَرفًا واحِدًا مِنَ الحديثِ، قالَ راوِيَتُهُ أَبو وائلٍ ما معناهُ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ لَبِثَ عامًا كامِلًا يُحَدِّثُهم دونَ أنْ يقولَ: قالَ رَسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، ولمَّا قالَهُ ذاتَ يومٍ اصْفَرَّ وَجْهُهُ، وتغَيَّرَ لَوْنُهُ فَرَقًا أَنْ يكونَ قدْ نَسِيَ شيئًا فأَتَى بمعناهُ مِنْ لفظِهِ، وهكَذا كانَ أَصْحَابُ رسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، وهذا هُوَ الشَّأْنُ فيما يَخُصُّ الأحاديثَ المَوْقُوفَةَ عَلى الصَّحابةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. ثمَّ إنَّ للحَديثِ شواهِدَ كَثيرةً مَرْفوعَةً، فَقد أَخْرَجَ الأئمَّةُ: أَحْمدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، نُطْفَةٌ. أَيْ رَبِّ، عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ، مُضْغَةٌ. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَهَا قَالَ: يَا رَبِّ، ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ وَالْأَجَلُ؟ قَالَ: فَذَلِكَ يُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (3/116 (12181)، وَ: (3/117 (12182)، و: (3/148 (12528)، و: (3/148 (12527). وَالبُخَارِي في صَحيحِهِ: (1/87 (318)، و: (4/162 (3333)، و: (8/152 (6595). ومُسْلِمٌ في صَحيحِهِ: (8/46 (6823)وغيرُهم.
وَأخرج أَحْمد وَمُسلم وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن حُذَيْفَةَ بْنِ أسَيْدٍ الْغِفَارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنيَّ هَاتَيْنِ يَقُولُ: ((إِنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ـ وَفِي لفظ: ((إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً, بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكًا, فَصَوَّرَهَا, وَخَلَقَ سَمْعَهَا, وَبَصَرَهَا, وَجِلْدَهَا, وَلَحْمَهَا, وَعِظَامَهَا, ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ, أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ, وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ, ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ, أَجَلُهُ, فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ, وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ, ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ, رِزْقُهُ, فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ, وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ, ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ, فَلاَ يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ, وَلاَ يَنْقُصُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في صَحيحِهِ: (4/2037، رقم: 2645)، وَ: الطَّبَرانيُّ: (3/178، رقم: 3044)، وَابْنُ حِبَّانَ: (14/52، رقم: 6177)، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ الكُبْرَى: (ج 7/ص: 422 رَقم: 15201).
إِذًا فإنَّ اللهَ يَعْلَمُ كُلَّ صغيرَةٍ وكبيرةٍ عن مَخلوقاتِهِ جَميعِهِم قبلَ أَنْ يخلُقَهُم، ويقسِمُ القِسَمَ ويُقَدِّرُ الأقدارَ، ويأمُرُ المَلَكَ المُوكَّلَ بِكُلِّ مَخلوقٍ مِنْ خلقِ اللهِ ـ سُبْحانَهُ، أَنْ يَنْسَخَ ما يخُصُّ هذا المخْلُوقَ المُوكَّل بِهِ مِنَ اللَّوحِ المحفوظِ ويحفظَهُ في سجِلٍ خاصٍ يحتفظُ بِهِ إلى أَنْ يَنْتَهِيَ أَجَلُهُ وَيُؤْمَرَ ملَكُ المَوتِ بقَبْضِ روحِهِ، وهوَ بذلكَ كَالعامِلِ الذي يُعهَدُ إلَيْهِ مُراقَبَةُ آلَةٍ فيُعْطَى نَشْرَةً كافيَةً وافيَةً عَنْهَا وكيفيَّةِ عَمَلِهَا حتّى يَسْتَطِيعَ التَّعامُلَ مَعَها بِشكْلٍ جَيِّدٍ.
فهَلْ يُعْقَلُ مِنَ العَليمِ الحَكيمُ، الَّذي يَعْلَمُ ما سَوْفَ يَفعَلُ كلٌّ مِنْ مَخْلوقاتِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، أَنْ يَخْتَارَ لِحَبيبِهِ، وصَفوتِهِ مِنْ خلْقِهِ، وَخاتَمِ أَنْبِيائِهِ وَرُسُلِهِ، زَوْجَةً فاسِدَةً تُسِيئُ إِلَيْهِ وَإِلَى رِسَالَتِهِ وَدِينِهِ، لا سيَّمَ وهوَ في مُجتمعٍ يعْتَبِرُ قَضَيَّةَ الحفاظِ على العِرضِ وَالشَرَفِ قَضِيَّةً أَساسيَّةً تُسفكُ في سبيلِها الدِّماءُ، وتَحطُّ مِنْ قدْرِ المَرْءِ طَوالَ حَياتِهِ، كائنًا مَنْ كانَ؟.
قولُهُ: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} وَالطُّيُورُ عَلَى أَشْبَاهِهَا تَقَعُ ـ كَمَا يُقَالُ، وَالمُجَانَسَةِ مِنْ دَوَاعِي التَّآلُفِ والمُجالَسَةِ وَانْضِمَامِ كُلٍّ إِلَى مُجانِسِهِ. وَكَمَا جاءَ في الأَثَرِ: فَإِنَّ للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكًا مُوكَلًا بِجَمْعِ الأَشْكَالِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ. رَوَاهُ الدَّيْنورِيُّ في المُجالَسَةِ عَنِ الإمامِ الشَّعْبيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ للهِ مَلَكًا مُوكَلًا بِتَأْليفِ الأَشْكَالِ. وَالمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ: إِنَّ للهِ مَلَائِكَةً, تَسوقُ الجِنْسَ إِلَى الجِنْسِ. وَلَمَّا كَانَ حَضْرَةُ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، أتقى العالمينَ، وأَطْيَبَ الطَّيِّبِينَ، وَأَطْهَرَ الطَّاهِرينَ، فقد اخْتَارَ لَهُ أَزواجَهُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُنَّ، مِنْ أَطْيَبِ الطَّيْبَاتِ وَأَزْكَى الزَّاكِياتِ، لا سيَّما أُمُّنا السَّيِّدةُ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنها وأَرْضاهَا، فهي الصِّدِّيقَةُ بنتُ صِدِّيقِ هَذِهِ الأمَّةِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ وَأَرْضَاهُ.
وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ العزيزُ الحَمِيدُ بَرَاءَتَها مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهَا في قُرْآنِهِ المَجيدِ، فَأَثْبَتَ أَنَّ ذلكَ الحديثَ الإِفْكَ إنَّما هُوَ إِفْكٌ مُفْتَرًى وَباطِلٌ مُخْتَلَقٌ، وَزُورٌ مَحْضٌ، ولِذَلِكَ فقد بَرَّأَها اللهُ ـ تَعَالى، بِآياتٍ بَيِّناتٍ مُنَوِّهًا بِعُلُوِّ شَأْنِ بَعْلِهَا، وَأَبِيهَا وَمقامِها هي نَفْسُهَا، كَمَا بَرَّأَ نَبِيَّهُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ بِاعْتِرافِ البَاغِيَةِ عَلَى نَفْسِها، وَبَرَّأَ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السّلامُ، بِشاهِدٍ مِنْ أَهْلِ زُلَيْخَا التي اتَّهَمَتْهُ، وَبَرَأَ مَرْيَمَ ـ عَلَيْهَا السَّلامُ بأَنْ أَنْطَقَ ابْنَهَا عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، ببراءَتِها، وهوَ ما يَزَالُ في مَهْدِه طِفْلًا صغيرًا، أَمَّ بَراءَةُ أُمِّنا السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، فقد كانَتْ أَعْظَمَ لأنَّ اللهَ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى، تَولَّاها بنفسِهِ المُقدَّسَةِ فأَنْزَلَها مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ قرآنًا يُتْلَى أَبَدَ الدَّهْرِ. لِأَنّها الدُّرَّةُ النَّفيسةُ المَصُون، الَّتي قَبَضَ روحَ حبيبِهِ الأعظَمِ وَرَسُولِهِ الأكْرَمِ في حِجْرِهَا، وَجَعَلَ مَثْواهُ في بَيْتِهَا، والتي كانَ يَنْزِلُ علَيْهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، الوَحْيُ وهُوَ في فِراشِهَا دُونَ سَائِرِ أَزواجِهِ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَكَثيرًا ما نَوَّهَ ـ عليْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، بِفَضْلِهَا، مِنْ ذلكَ ما أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ عَنْ أَبي عُثْمانٍ النَّهْدِيِّ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ العَاصِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، قالَ: (لَمَّا انْصَرَفْنَا مِنْ الْأَحْزَابِ عَنْ الْخَنْدَقِ, جَمَعْتُ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَرَوْنَ مَكَانِي وَيَسْمَعُونَ مِنِّي, فَقُلْتُ لَهُمْ: تَعْلَمُونَ وَاللهِ إِنِّي لَأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو الْأُمُورَ عُلُوًّا كَبِيرًا مُنْكَرًا, وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا فَمَا تَرَوْنَ فِيهِ؟, قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ؟, قَالَ: رَأَيْتُ أَنْ نَلْحَقَ بِالنَّجَاشِيِّ فَنَكُونَ عِنْدَهُ, فَإِنْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى قَوْمِنَا, كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ, فَإِنَّا أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْهِ, أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْ مُحَمَّدٍ, وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمُنَا, فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عُرِفَ, فَلَنْ يَأتِيَنَا مِنْهُمْ إِلَّا خَيْرٌ, فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّأيُ, فَقُلْتُ لَهُمْ: فَاجْمَعُوا لَهُ مَا نُهْدِي لَهُ ـ وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الْأَدَمُ، فَجَمَعْنَا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا, فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ, فَوَاللهِ إِنَّا لَعِنْدَهُ, إِذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ فِي شَأنِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ, فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ, لَوْ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ, رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي قَدْ أَجْزَأتُ عَنْهَا حِينَ قَتَلْتُ رَسُولَ مُحَمَّدٍ, قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَجَدْتُ لَهُ كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ, فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي, أَهْدَيْتَ لِي مِنْ بِلَادِكَ شَيْئًا؟, فَقُلْتُ: نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ, قَدْ أَهْدَيْتُ لَكَ أُدْمًا كَثِيرًا, ثُمَّ قَدَّمْتُهُ إِلَيْهِ, فَأَعْجَبَهُ وَاشْتَهَاهُ, ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ, إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ, وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوٍّ لَنَا, فَأَعْطِنِيهِ لِأَقْتُلَهُ, فَإِنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْ أَشْرَافِنَا وَخِيَارِنَا, فَغَضِبَ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفَهُ ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنْ قَدْ كَسَرَهُ, فَلَوْ انْشَقَّتْ لِي الْأَرْضُ, لَدَخَلْتُ فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ, ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ, وَاللهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَكْرَهُ هَذَا مَا سَأَلْتُكَهُ, فَقَالَ لِي: أَتَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ رَسُولَ رَجُلٍ يَأتِيهِ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى لِتَقْتُلَهُ؟, فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ, أَكَذَاكَ هُوَ؟, فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عَمْرُو أَطِعْنِي وَاتَّبِعْهُ, فَإِنَّهُ وَاللهِ لَعَلَى الْحَقِّ, وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ, فَقُلْتُ: فَبَايِعْنِي لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ, قَالَ: نَعَمْ, فَبَسَطَ يَدَهُ, وَبَايَعْتُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ, ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي وَقَدْ حَالَ رَأْيِي عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ, وَكَتَمْتُ أَصْحَابِي إِسْلَامِي, ثُمَّ خَرَجْتُ عَامِدًا لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأُسْلِمَ, فَلَقِيتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ ـ وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ, فَقُلْتُ: أَيْنَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ اسْتَقَامَ الْمَنْسِمُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ, أَذْهَبُ وَاللهِ أُسْلِمُ, فَحَتَّى مَتَى؟, فَقُلْتُ: وَاللهِ مَا جِئْتُ إِلَّا لِأُسْلِمَ, فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَبَايَعَ, ثُمَّ دَنَوْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ يُغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا عَمْرُو, بَايِعْ, فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا)), قَالَ: فَبَايَعْتُهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَامَ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَقَالَ: ((خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ, ثُمَّ ائْتِنِي)) فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ, فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأطَأَهُ، ثُمَّ قَالَ: ((يَا عَمْرُو, إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ، (فَيُسَلِّمَكَ اللهُ وَيُغْنِمَكَ, وَأَرْغَبُ لَكَ مِنْ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً)), فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ, وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ, وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: ((يَا عَمْرُو, نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ)). قَالَ: فَاحْتَلَمْتُ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ، فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنْ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ, فَتَيَمَّمْتُ, ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ, فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: ((يَا عَمْرُو, صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟))، فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَأَشْفَقْتُ إِنْ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ, وَذَكَرْتُ قَوْلَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ, إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} الآيةَ: 29، مِنْ سُورَةِ النِّساءِ. فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ, فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟, قَالَ: ((عَائِشَةُ)), قُلْتُ: فَمِنْ الرِّجَالِ؟, قَالَ: ((أَبُوهَا)). قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟, قَالَ: ((عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)), قَالَ: فَعَدَّ رِجَالًا، فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ: (4/203 (17964)، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: (295)، وَالبُخَارِي: (5/6 (3662)، و: (5/209 (4358) ، وَمُسْلِمٌ: (7/109 (6253)، وَالتِّرمِذيُّ: (3885)، وَالنَّسائيُّ في "الكُبْرَى": (8063). فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ فَضْلٍ، وَهَلْ مِنْ مَكانَةٍ أَعْلى مِنْ مَكَانَتِهَا، أَوْ كَرَامَةٍ فوقَ كَرَامَتٍها؟.
ثمَّ إِنَّ عَطَفَ جُمْلَةِ قولِهِ ـ عَزَّ مِنْ قائلٍ: "الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ" عَلَى جملةِ: "الخبيثاتُ للخبيثينَ"، وَعَطْفَ جُمْلَةِ قولِهِ: "الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ" عَلى جُمْلَةِ "الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ" هُوَ عَطْفُ إِطْنَابٍ، والغَايَةُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُقَارَنَةَ دَلِيلٌ عَلَى حَالِ كُلٍّ مِنَ الْقَرِينَيْنِ فِي الْخَيْرِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْحُكْمِ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِدَلَالَتِهَا عَلَى الْحُكْمِ أَيْضًا، فَتَكونَ بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ السَّائرِ في الدَّلالَةِ عَلى المَعْنَى المُرادِ، وَلِيَكُونَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حَالِ الْقَرِينِ بِحَالِ مُقَارِنِهِ وَاضِحًا مِنْ أَيِّ جَانِبٍ أتَيْتَهُ وَابْتَدَأْتَهُ ونَظَرْتَ إِلَيْه.
قولُهُ: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} المُرادُ بِـ "أُولَئِكَ" السَّيِّدةُ عَائشَةُ وَصَفْوانُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، الَّذي اتُّهِمَتْ بِهِ. وإِنَّما ذَكَرهما بلفظِ الجماعةِ لأَنَّهم يعدونَ المُثَنَّى مِنَ الجَمع قالَ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: 11، مِنْ سورةِ النِّساءَ: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ}، والمُرَادُ أَخَوَانِ. وَغَلَبَ ضَمِيرُ التَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ: "مُبَرَّؤُونَ" لِأنَّ العَرَبَ يُغلِّبونَ المُذَكَّرَ عَلى المُؤنَّثِ إِذَا اجْتَمَعَا، وَ "مُبَرَّؤونَ" أَيْ: مُنَزَّهُونَ.
قوْلُهُ: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لِـ "أُولئكَ" الـ "مُبَرَّؤونَ" مِمَّا قالَةِ السُّفَهَاءُ مَغْفِرةٌ مِنْ رَبِّهِم، ورزقٌ كريمٌ في الآخرةِ منهُ ـ سُبْحانَهُ، تعويضًا لهم عَمَّا عانوا مِنْ عذابٍ نفسيٍّ جَرَّاءَ ما اتُّهِموا بِهِ زورً وبُهتانًا، وَالْكَرِيمَ هُوَ النَّفِيسُ فِي جِنْسِهِ، وَالمُرَادُ بالرِّزْقِ الْكَرِيمِ هُنَا: نَعِيمُ الْجَنَّةِ وما فيها مِنْ مَلَاذٍّ وَطَيِّباتٍ.
قولُهُ تَعَالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الْخَبِيثَاتُ: مَرفوعٌ بالابْتِدَاءِ. وَ "لِلْخَبِيثِينَ" اللامُ: حَرْفٌ للجَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ للمُبْتَدَّأِ تقديرُهُ: مَوجوداتٌ، أَوْ مُخَصَّصاتٌ، و "الْخَبِيثِينَ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَعَلَامَةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَالمُ، والنُّونِ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَة، مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، في أَنْ يَسُوقَ كُلَّ صِنْفٍ إِلَى صِنْفِهِ، وَأَنْ يَقَعَ كُلُّ طَيْرٍ عَلَى شَكْلِهِ، فَلَيْسَ لَهَا مَحَلَّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} الواوُ: حَرْفٌ للعَطِفِ، وَ "الْخَبِيثُونَ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وَعَلَامَةُ رَفْعِهِ الواوُ لِأَنَّهُ جَمْعُ المَذَكَّرِ السَّالِمُ، والنُّونِ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. وَ "لِلْخَبِيثَاتِ" اللَّامُ حَرْفُ جَرٍّ أَيْضًا، وهوَ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقدَّرٍ لِلمُبْتَدَأِ، أَيْ: "مَقسومونَ"، وَ "الْخَبِيثَاتِ" مَجْرورٌ بحَرْفِ الجَرِّ إيَّاهُ. وَهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ التي قَبْلَهَا، عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً، فَلَيسَ لها مَحَلَّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} الواوُ: حَرْفٌ للعَطْفِ، وَ "الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ" مِثْلُ "الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ" ولها مِثْلُ إِعْرَابِها. وَالجُمْلَةُ معطوفة.
قولُهُ: {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} الوَاوُ: حَرْفٌ للعَطْفِ. و "وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ" مثلُ "الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ" ولها مِثْلُ ما لِتِلْكَ مِنَ الإعرابُ. وَالجُمْلَةُ معطوفة.
قولُهُ: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا} أُولَئِكَ: اسمُ إِشَارَةٍ للبَعِيدينَ، مَبْنيٌّ عَلى الكَسْرِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، والكافُ: للخِطابِ. و "مُبَرَّءُونَ" خَبَرُهُ الأوَّلُ مَرفوعٌ، وعلامةُ رَفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونِ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. وَ "مِمَّا" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "مُبَرَّءُونَ"، و "مَا" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسُتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانيًّا لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {يَقُولُونَ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلَامَةُ رفعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ على كونِهِ فاعِلًا بِهِ. والجُمْلَةُ الفعْليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ لـ "ما" الَموْصُولَةِ فلَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائد محذوف، والتقديرُ: "يَقولُونَهُ". وَيَجُوزُ أَنْ تكونَ "ما" هَذِهِ مَصْدَرِيَّةً فَيكونُ المَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "مَا" المَصْدَريَّةِ هَذِهِ والفعلِ "يَقُولُونَ" بعدَها في مَحَلِّ الجَرِّ بِـ "مِنْ"، مُتَعَلِّقًا بالخَبَرِ "مُبَرَّؤونَ" أَيْضًا.
قولُهُ: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لَهُمْ: اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ: علامَةُ جمعِ المُذَكَّرِ. و "مَغْفِرَةٌ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ اللامُ مِنْ "لَهُمْ" مُتَعَلِّقًا بِخَبَرٍ لِـ "أُولَئِكَ" وَ "مَغْفِرَةٌ" فَاعِلُهُ. وَ "وَرِزْقٌ" الواوُ: حَرْفٌ لِلْعَطْفِ، وَ "رِزْقٌ" مَعْطوفٌ عَلَى "مَغْفِرَةٌ" مَرْفوعٌ مِثْلُهُ. و "كَرِيمٌ" صِفَةٌ لِـ "رِزْقٌ". وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ خَبَرٌ ثَانٍ لِـ "أُولَئِكَ" في مَحَلِّ الرَّفعِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلٌّ لها مِنَ الإعرابِ.