لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ
(12)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} لولا: هنا أَداةٌ للحَثِّ والحَضِّ، بمَعْنَى: هَلَّا، كونَها وَقَعَتْ بَعْدَ فِعْلٍ مَاضٍ، ومِثْلُ ذلكَ قولُهُ في الآيةِ: 118، مِنْ سورةِ البَقَرةِ: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ}، وقولُهُ مِنْ سورة الأنعام: {ْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} الآيةَ: 8؛ وقولُهُ: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي} الآيةَ: 10، مِنْ سُورَةِ "المُنَافِقُونُ؛ أَمَّا إِذا جاءَ بَعْدَها اسْمٌ فَتَكونُ حرفَ امْتِناعِ شَيْءٍ لِوُجودِ غَيرِهِ، والاسْمُ الذي بعدَها يكونَ مرفوعًا بالابتِداءِ خَبَرُهُ مَحْذوفٌ، كَمَا في قَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سُورةِ النُّور: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} الآيةَ: (21) وَمِنْهُ قولُهُ مِنْ سورةِ الحجِّ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} الآيةَ: (40)؛ ومِنْ ذلكَ قولُ الأعْشَى:
يكادُ يقعدُها لولا تشدُّدُها .................... ـ عِنْدَ القِيامِ إِلى جاراتها، الكسلُ
أمَّا قَوْلُهُ ـ تَعَالى، مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهانَ رَبِّهِ} الآيةَ: 24، فإنَّ "أَنْ" وما بعدَها في تأْويلِ مَصْدَرٍ مَحلُّهُ الرَّفعُ بالابْتِداء.
وقد تأتي "لَوْلَا" نافيَةَ بِمَعْنى "لم" كما في قَوْلِهِ ـ تعالى، مِنْ سورةِ يونُسَ ـ عليْهِ السَّلامُ: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} الآيةَ: 98، أَيْ: فَلَمْ تَكُنْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ، كما فَسَّرها بعْضُهُم.
فَالمُعْنى في هَذِهِ الآيَةِ: هلَّا ظنَنْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ الخيرَ وَالصَّلاحَ، والعِفَّةَ والتَّقْوَى، حينَ سَمِعتُمُ المُنافقينَ يَلُوكونَ أَعْرَاضَكم بِأَلْسِنَتِهِمُ النَّجِسَةِ، ونُفُوسِهِمُ الحاقدَةِ الخَبيثَةِ.
وهوَ لَا يَحُثُّهُمْ عَلَى ظَنِّ ذَلِكَ بِرَسُولِهم وزَوْجِه، وإِنَّما بِأَنْفُسِهِمْ هُمْ؛ لَأَنَّه إِذا كانَ لَا يَليقُ بهم ظَنُّ، السُّوءِ بأَنْفُسِهِ فَمَا بالُكَ أَنْ يظنُّهُ بِزَوْجِ نَبيِّهم وَرَسُولِ ربِّهِم ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؟.
قولُهُ: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} قَالَ الْحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "بأَنْفُسهم" أَي: بِأَهْلِ دِينِهِمْ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَنَظِيرُ هَذا قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ النِّساءِ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآيَةَ: 29، وقولُهُ في الآيةِ: 61، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركَةِ: {فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ}. وَقَالَ أَبو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ في "معاني القرآنِ وإعرابُهُ" لَهُ: وَكَذَلِكَ يُقالُ لِلْقَوْمِ الَّذينَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: إِنَّهمْ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ. "معاني القرآنِ وإعرابُهُ": (4/36). وقريبٌ مِنْ ذلكَ ما قالهُ مُقاتلُ بْنُ سُليمان: في تفسيرِهِ: أَلَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا بِأَنَّهمْ لَا يَزْنُونُ؟. "تفسير مقاتل": (2/36 أ). وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ في "غَريبُ القُرْآنِ": بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ وكُلُّها مَعانٍ مُتَقارِبَةٌ. "غريبُ القرآنِ" لأبي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدَّينوري: (ص: 301). وقالَ أبو الليثِ نَصْرٌ السَّمَرقندِيُّ في تفسيرِهِ: "بحرُ العلومِ": (2/502).
وقد خَصَّ القُرآنُ الكَريمُ المُؤْمنينَ والمُؤْمِنَاتِ بالذِّكْرِ هُنَا لأَنَّ البَعْضِ مِنْهُمْ ساورَهُمُ الشَّكُّ في أُمِّ المُؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَصَدَّقَ المُنَافِقِينَ وَشَارَكَهُمْ في إِشاعَةِ حَديثِ الإِفكِ.
إِذًا فَقَدْ كانَ عَلى المُؤْمِنينَ ـ أَنْفُسِهِمْ، أَنْ يُحسنوا الظَّنَّ في المُؤمنينَ، ويَرُدُّوا أَيْديَهُمْ في أَفْوَاهِ المُنَافقينَ، وَيُكَذِّبوا هَذَا الكَلَامَ الَّذي يَتَنَاوَلَ بالسُّوءِ عِرْضَ نَبِيِّهِم. قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ القُرْآنُ الكَريمُ فيهِ وَيَتَكَفَّلَ اللهُ بِرَدِّهِ.
قولُهُ: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} يَعْني: هَلَّا ظَنَنْتُمْ بِهِ كَظَنِّكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ؟ فقُلْتُمْ حِينَ بَلَغَكُمْ هَذَا الكَذِبُ كَمَا قالَ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ: "هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ"، وَعَلِمْتُمْ أَنَّ أُمَّكُمْ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، لَا تَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ؟.
قولُهُ تَعَالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} لَوْلَا: حَرْفُ تَحْضِيضٍ بِمَعْنَى "هَلَّا"، مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى التَّوْبيخِ وَالزَّجْرِ. و "إِذْ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمان, مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزمانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "ظَنَّ" الَّذي هُوَ مَدْخُولُ "لَوْلَا". وَالتَّقْديرُ: لَوْلَا ظَنَّ المُؤْمِنُونَ بِأَنْفُسِهِمْ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ. وَهَذَا الْتِفاتٌ. فَقَدْ عَدَلَ عَنِ الخِطابِ إِلَى الغَيْبَةِ، وَعدلَ عَنِ الإضْمارِ إِلى الإظْهارِ، للمُبالَغَةِ في التَّوْبِيخِ بِطَريقَةِ الالْتِفَاتِ، وَلِيُصَرِّحَ بِلَفْظِ الإِيمانِ للدَّلَالَةِ عَلى أَنَّ الاشْتِرَاكَ فِيهِ مُقْتَضٍ أَنْ لَّا يُصَدِّقَ المُؤْمنُ قَالَةَ سُوءٍ في أَخِيهِ المُؤْمِنِ. و "سَمِعْتُمُوهُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وهيَ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ، وقدْ أُشْبِعتْ ضمَّتُهُ فقُلِبَتْ واوًا, والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في م
مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ لِـ "إِذْ".
قولُهُ: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} ظَنَّ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى الفتْحِ الظَّاهِرِ. و "الْمُؤْمِنُونَ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وعلامَةُ رَفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ. و "وَالْمُؤْمِنَاتُ" الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "الْمُؤْمِنَاتُ" مَعْطوفٌ عَلَى "الْمُؤْمِنُونَ" مَرْفوعٌ مِثْلُهُ. و "بِأَنْفُسِهِمْ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتعَلِّقٌ بالمَفْعُولِ الأَوَّل للظَّنِّ، و "أَنْفُسِهِمْ" مَجْرُورٌ بحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "خَيْرًا" مَفْعُولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ، وَجُمْلَةُ "ظَنَّ" هذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَقَالُوا} الواوُ: حرفٌ للعَطْفِ، و "قَالُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ عَطْفًا عَلَى "ظَنَّ"، والألِفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ معطوفةٌ على جملةِ ظَنَّ على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} هَذَا: الهاءُ: للتَّنْبِيهِ، وَ "ذا" اسْمُ إِشارةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "إِفْكٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. و "مُبِينٌ" صِفَةٌ للخَبَرِ "إِفْكٌ" مَرْفوعٌ مِثْلُهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ مَقُولُ "قالوا".