الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 117
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ} هُوَ وَعيدٌ مِنَ اللهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ، لِمَنْ أَشْرَكَ بهِ سِوَاهُ، وَعَبَدَ مَعَهُ غيْرَهُ.
قولُهُ: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أَيْ: لَا حُجَّةَ لَهُ وَلَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى وُجُودِ شَريكٍ للهِ ـ تَعَالَى، يستَحِقُّ مَعَهُ العِبَادَةَ، والسَّمْعَ والطَّاعةَ. وَالْبُرْهَانُ: هُوَ الدَّلِيلُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ معَهُ لَبْسًا فِي الْحَقِّ، فهوَ كَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الحَجِّ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} الْآيَةَ: 71، فَالسُّلْطَانُ والْبُرْهَانُ بِمَعْنَى، وَهُوَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَالدَّليلُ القاطِعُ الَّذي لا يَتْرُكُ مَجالًا للشَّكِّ فيهِ.
قولُهُ: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} إِنَّمَا: أداةٌ للحَصْرِ، وهَذا يَعْنِي أنَّ حِسابَهُ وَعِقَابَهُ مَحصورٌ في الذاتِ العَلِيَّةِ ومقصورٌ عَلَيْهِ، جَلَّ وَعَلَا، وهذا غايةٌ في التهديدِ لأَنَّ مَنْ كانَ اللهُ العظيمُ خَصْمَهُ، الذي سيحاسِبهُ وَيُعَاقِبُهُ، فلا يُمْكِنُ تَصَوُرُ عِظَمَ عقابِهِ وشِدَّةَ عَذابِهِ، والعياذُ باللهِ تعالى.
قولُهُ: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أيْ: إِنَّ الكافرينَ باللهِ ـ تعالى، لَا يَنْجَحُونَ وَلَا يَفُوزُونَ بِأَيَّةِ مَكاسِبَ أَوْ مَرَابِحَ فِي الدُّنْيا وِلا في الآخِرَةِ، بَلْ يَنْتَظِرُهُم أَشَدُّ العَذابِ في نَارِ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَأَعْظَمُ الْكَافِرِينَ كُفْرًا هُوَ مَنْ يَدْعُو مَعَ اللهِ ـ تَعَالَى إِلَهًا آخَرَ، لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ، وَنَفْيُ الْفَلَاحِ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى هَلَاكِهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ مِنْ دُعَاءِ إِلَهٍ مَعَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ منْ سُورَةِ الإسْراءِ: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} الآيةَ: 22، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ القَصِصِ: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الآيةَ: 88، وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} الآيَةَ: 51، مِنْ سورةِ الذَّارياتِ، إِلَى غَيْرهَا مِنَ الآياتِ البَيِّناتِ.
قولُهُ تَعَالى: {وَمَنْ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "مَنْ" شَرْطِيَّةٌ جازِمَةٌ، مبنيَّةٌ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ، وخَبَرُهُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَوَابِ، أَوْ هُمَا معًا. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ} يَدْعُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وعلامةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنْ". و "مَعَ" مَنْصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ الاعتبارِيَّةِ، مُتَعَلِّقُ بِـ "يَدْعُ"، وهوَ مُضافٌ، وَاسْمُ الجلالةِ "اللهِ" في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "إِلَهًا" مَفْعُولُ "يَدْعُ" منصوبٌ بِهِ. و "آخَرَ" صِفَةٌ أُولَى لِـ "إِلَهًا" منصوبٌ مِثْلُهُ.
قوْلُهُ: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} لا: نَافِيَةٌ لِلْجِّنْسِ تعمَلُ عَمَلَ "إِنَّ". و "بُرْهَانَ" مبنِيٌّ على الفتْحِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، اسْمُهَا. و "لَهُ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متَعَلِّقٌ بِخَبرِ "لَا" المَحْذوفِ تقديرُهُ "مَوجودٌ"، والهاءُ: ضميرٌّ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرفِ الجرِّ. و "بِهِ" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ بِمَعْنَى "عَلَى"، مُتَعَلِّقٌ بِـخَبَرِ "لَا" أَيْضًا، وَالتقديرُ: لَا بُرْهَانَ عَلَيْهِ مَوْجودٌ (أَوْ كائنٌ) لَهُ. والْجملَةُ مِنْ "لَا" واسْمِها وَخَبَرِهَا في مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً ثانيَةً لِـ "إِلَهًا". وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَا مَفْهُومَ لَهَا. أَيْ: لَا يَكُونُ الإِلَهُ المَدْعُوُّ مِنْ دُونِ اللهِ إِلَّا كَذَا، فَلَيْسَ لَهَا مَفْهُومٌ وذلكَ لِفَسادِ المَعْنَى. كما في قولِهِ ـ تعالى، مِنْ سُورةِ الأنعامِ: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الآيةَ: 38، لَا يُفْهَمُ أَنَّ ثَمَّ إلَهًا آخَرَ مَدْعُوًّا مِنْ دُونِ اللهِ لَهُ بُرْهَانٌ، وَأَنَّ ثَمَّةَ طائِرًا يَطيرُ بِغَيْرِ جَنَاحَيْهِ. ويجوزُ أَنْ تكونَ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. وَإِلَى الْوَجْهَيْنِ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَفسيرِهِ الكَشَّافِ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ كَقَوْلِهِ: {يَطيرُ بِجَنَاحَيْهِ}، جِيءَ بِهَا للتَّوْكيدِ لَا أَنْ يَكُونَ فِي الآلِهَةِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ بُرْهانٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الشَّرْطِ وَالجَزَاءِ، كَقَوْلِكَ: مَنْ أَحْسَنَ إِلَى زَيْدٍ لَا أَحَقَّ بِالْإِحْسانِ مِنْهُ فَاللهُ مُثِيبُهُ.
وَقيلَ: يَجُوزُ أَنَّ يكونَ جَوَابَ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ. فَكَأَنَّما فُرَّ مِنْ مَفْهُومِ الصِّفَةِ لِمَا يَلْزَمُ لِفَسَادِهِ فَوقَعَ فِي شَيْءٍ غيْرِ جُائزٍ إِلَّا في ضَرُورَةِ شَعْرٍ، وهُوَ حَذْفُ فَاءِ الجَزَاءِ مِنَ الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ، في قَوْلِ الشاعِرِ حسَّانِ بْنِ ثابتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ:
مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرُها ......... والشَّرُّ بالشَرِّ عِنْدَ اللهِ مِثْلَانِ
فقد أَرَادَ القوْلَ "فاللهُ".
قولُهُ: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} الفاءُ: هي الرَّابِطَةُ لِجَوَابِ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ. وَ "إِنَّما" هي أَدَاةٌ للحَصْرٍ. و "حِسَابُهُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، وهوَ مُضَافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "عِنْدَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفيَّةِ الاعْتِبَارِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ المَحذوفِ، والتَقْديرُ: مَوْجودٌ، وهوَ مُضافٌ، وَ "رَبِّهِ" اسمُ الرُّبوبيَّةِ في مَحلِّ الجَرِّ بالإضافةِ وهوَ مَضافٌ، والهَاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهْ، وهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا لَهَا.
قولُهُ: {إِنَّهُ} إِنَّهُ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتَّوْكِيدِ، وَالهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، وخبرُهُ جُمْلَةُ "لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ"، والجُمْلَةُ مِنْ "إنَّ" وَاسْمِهَا وَخَبَرِهِا مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} لا: نافيَةٌ. و "يُفْلِحُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، و "الكافرونَ" فاعِلُهُ مَرفوعٌ بِهِ، وعَلَامَةُ رَفعِهِ الواوُ لأَنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المفردِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ خبرُ "إِنَّ".
قرأَ الجُمْهُورُ: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلَى الاسْتِئْنَافِ المُفيدِ للعِلْمِ. وَقَرَأَ الحَسَنُ وَقَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: "أَنَّهُ" بفَتْحِها. وَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنْ يَكونَ خَبَرَ "حِسابُهُ"، قَالَ: وَمَعْنَاهُ: حِسابُهُ عَدَمُ الفَلَاحِ. وَالأَصْلُ: حِسَابُهُ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ هُوَ، فَوَضَعَ "الكَافِرُونَ" فِي مَوْضِعِ الضَّميرِ، لِأَنَّ مَنْ يَدْعُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ "حِسَابُهُ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ" فِي مَعْنَى: حِسابُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ العِلَّةِ، أَيْ: لِأَنَّهُ لَا يُفْلِحً.
وَقَرَأَ أَيْضًا الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ: "لَا يَفْلَحُ" بِفَتْحِ اليَاءِ وَاللَّامِ، مُضَارِعَ "فَلَحَ" بمَعْنَى "أَفْلَحَ"، كَ "فَعَلَ" وَ "أَفْعَلَ" فِيهِ بِمَعْنًى. وَاللهُ أَعْلَمُ.