أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
(72)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} أَيْ: أَمْ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَسْأَلُهُمْ "خرجًا" عَلْى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ إلَيْهمْ. وَالْخَرْجُ: مَا يَخْرُجُ مِنَ المَرْءِ طَوَاعِيَةً. فقدِ انْتَقَلَ مِنْ تَوْبِيخِهِمْ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} إِلَى التَّوبِيخِ بِوَجْهٍ آخَرَ.
قولُهُ: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} الخَرَاجُ: أَبْلَغُ مِنَ الْخَرْجِ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنَ المَرْءِ رَغْمًا عَنْهُ، فَإِنَّ الزِّيادَةَ في المَبْنَى تَدُلُّ عَلَى الزِّيادَةِ فِي المَعْنَى، فقد قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ فَقَالَ: الْخَرَاجُ مَا لَزِمَكَ، وَالْخَرْجُ مَا تَبَرَّعْتَ بِهِ. وَرويَ عَنْهُ أَيْضًا: أَنَّ الْخَرْجَ مِنَ الرِّقَابِ، وَالْخَرَاجَ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْخَرْجُ الْجُعْلُ، وَالْخَرَاجُ الْعَطَاءُ. وقالَ الْمُبَرِّدُ أَبُو العبَّاسِ: الْخَرْجُ الْمَصْدَرُ، وَالْخَرَاجُ الِاسْمُ.
فَإِنْ كُنْتَ أَيُّها الإنْسانُ تُرِيدُ رِزْقُهُ فِي الدُّنْيَا وَثَوَابُهُ فِي الآخِرَةِ فَلَا تَطْلُبْهُ مِنْ أَيْدي المُشْرِكِينَ، إِنَّمَا اطْلُبْهِ مِنْ رَبِّ العالَمِينَ، لِأَنَّ مَا عِنْدَهُمْ لَيْسَ خَرْجًا يُعْطُوهُ لَكَ طَوَاعِيَةً عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، بَلْ هُوَ خَرَاجُ لَا يُعْطُونَهُ إِلَّا كَارِهِينَ مُكْرَهِينَ.
قولُهُ: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} تَذْييلٌ مِنَ الحَقِّ ـ سُبْحَانَهُ، لِلْآيَةِ أَحْدَثَ إِشْكَالًا عَنْدَ بَعْضِ قصيريِّ الفَهْمِ؛ فكيفَ جَعَلَ اللهُ ـ تَعَالى، لِخَلْقِهِ شَرَاكَةِ في صِفَةِ الرَّازِقِ، فَهَلْ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُ أَيْضًا، لِيَكونَ اللهُ خَيْرَ الرَّازِقِينَ؛ وفي الإجابةِ عَنْ هَذا الإشْكالِ نقولُ: إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ الخَلْقَ أُصُولَ الأَشْيَاءِ الَّتِي منها يَرْزُقُونَ غَيْرَهُمْ، فَإِنَّ الفَلَّاحَ يَكِدُّ ويَتْعَبُ فَيَرْزُقُهُ اللهُ الخَيْرَ الوَفِيرَ، فَهُوَ ـ سُبْحَانَهُ خَالِقُ التُّرْبَةِ، وَخَالِقُ المَاءِ، وَخَالِقُ الشَّمْسِ وَالهَوَاءِ، وَخَالِقُ البُذْرَةِ، وَمُنْبتها، فَيُطْعِمُ افلاحُ غَيْرَهُ مِمَّا رَزَقهُ اللهُ، فَيَكُونُ رَازِقًا لِغَيْرِهِ، وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَا اسْتَطاعَ أَنْ يَرْزُقَ نَفْسَهُ وَلَا غَيْرَهُ. وَهَكَذا التَّجَارَةُ وَالصِّنَاعَةُ وَبَاقِي أَبْوَابِ الكَسْبِ وَالرِّزْقِ، فَكَمْ مِنْ زَارِعٍ لَمْ يَحْصُدْ، وَكَمْ مِنْ تَاجِرٍ كَسَدَتْ بِضَاعَتُهُ، أَوْ فَسَدَتْ، فَخَسِرَ تِجَارَتَهُ، وَضَاعَ مَالُهُ، وَهَكَذا. فَلا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الخلقِ أَنْ يَرْزُقَ مِثْلَ رِزْقِهِ ـ تباركَ وتَعَالى، وَلَا أَنْ يُنْعِمَ بِمِثْلِ ما يُنْعِمُ بِهِ.
إَذًا: فَاللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، مَصْدَرُ كُلِّ خَيْرٍ، وَأْصْلُ كُلِّ رِزْقٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ الإِيمانَ أَنْ تَشهَدَهُ في كُلِّ مَا يأتيكَ مِنْ رزْقٍ، وما تَجِدُهُ مِنْ خَيْرٍ، وأَلَّا تُحْجَبَ بالسَّبَبِ عَنِ المُسَبِّبَ، فإِذَا امْتَدَّتْ إِلَيْكَ يَدٌ بِالرِّزْقِ فَانْظُرْ مَنْ رزَقَكَ بهَذِهِ الْيَدِ. وَهَذَا لَا يَعْنِي أَلَّا تَرَى اليَدَ التي أُعْطِيتَ بِهَا وَتُظْهِرَ شُكْرَكَ وَامْتِنَانَكَ لَهَا، فإِنَّ شُكْرها مِنْ شُكْرِ الَّذي أَعْطَاكَ بِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ـ عَلَيْهِ وآلِهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللهَ ـ تَعَالَى. التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهُ كُفْرٌ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)). أَخْرجَهُ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: (4/278)، وَابْنُهُ عَبْدُ اللهِ فِي زَوَائِدِ المُسْنَدِ: (4/375). قَالَ الهَيْثَمِيُّ فِي المَجْمَعِ: (5/218): رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ ابْنُ أَحْمَدَ، والبَزَّارُ، والطَّبَرَانِيُّ وَرِجَالُهُمْ ثِقَاتٌ". وَقَالَ العَجْلُونِيُّ فِي "كَشْفُ الخَفَاءِ ومُزيلُ الالْتباسِ": (2/336): رَوَاهُ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي "اصْطِنَاعِ المَعْرُوفِ" عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بشيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ اللهِ ابْنُ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسِ بِهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} أَمْ: عَاطِفَةٌ بِمَعْنَى "بَلْ" الانْتِقَالِيَّةِ. وَهَمْزَةُ الاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ الإنْكَارِيِّ؛ أَيْ: بَلْ أَتَسْأَلُهُمْ. و "تَسْأَلُهُمْ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وَالهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "خَرْجًا" مَفْعُولُهُ الثَّانِي منصوبٌ بِهِ، والْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} مِنَ الجُمْلَةِ الَّتي قَبْلَهَا فلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإعْرَابِ، وَمَا بَيْنَهُما اعْتِراض.
قولُهُ: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} الفَاءُ: للتَّعْلِيلِ. وَ "خَرَاجُ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وهوَ مُضافٌ. وَ "رَبِّكَ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وهوَ مُضافٌ أَيْضًا، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "خَيْرٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرفوعٌ. وَهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جُمْلَةٌ تَعْلِيلِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} الوَاوُ: للعطْفِ، وَ "هُوَ" ضميرٌ مُنْفصِلٌ مَبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ. و "خَيْرُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، مُضافٌ، وَ "الرَّازِقِينَ" مَجْرورٌ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونِ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفردِ، وَالْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ قَبْلَهَا على كَوْنِها تَعْلِيليَّةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قرأَ العامَّةُ: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: "أمْ تَسْأَلُهُمْ خَرَاجًا" بِأَلِفٍ. وَقرأَ كُلُّهُمْ "فَخَراجُ" بِالْأَلِفِ إِلَّا ابْنَ عَامِرٍ وَأَبَا حَيْوَةَ فَإِنَّهُمَا قَرَآ بِغَيْرِ الْأَلِفِ.