فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ الآية: 23
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} تَعْزِيَةٌ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدًا ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ تَكْذيبِ أُمَّتَهُ لَهُ، بِأَنَّ غَيْرَهُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْمَرْسَلِينَ قَد كَذَّبَتْهُمْ أَقْوَامُهُمْ أَيْضًا، وَتَسْلِيَةٌ لِقَلْبِهِ الشَّريفِ بِقَصَصِ أَسْلافِهِ الأَنْبِياءِ ـ عليْهِ وعليْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ. فَقَدْ نَقَلَ الإمامُ الوَاحِدِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ تَعَالَى، فِي تَفْسِيرِهِ: (البسيط) عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قالَ في الآيَةِ: يُعَزِّي نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّ غَيْرَ أُمَّتِهِ قَدْ كَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ أَيْضًا، وَجَحَدُوا الْبَعْثَ.
فَلَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ ـ تَعَالَى، نَبِيَّهُ نُوحًا ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، إِلَى قَوْمِهِ لِيَدْعُوَهُم إِلَى عِبَادَةِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَحْدَهُ، وَيُحَذِّرَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأْسِهِ الشَّدِيدِ إِنْ هُمْ عَصَوْهُ، وَلِيُنَبِّهَهُمْ أَيْضًا إِلى عَظِيمِ انْتِقَامِهِ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِهِ، وخَالَفَ عنْ أَمْرَهُ، وَكَذَّبَ بِرِسَالَاتِهِ وَرُسُلَهُ.
فإنَّهُ لَمَّا تَقَدَمَ تَوْجيهُ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كفرُوا بالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاعْتَلُّوا لِكَفْرِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِرِسَالَةِ بَشَرٍ مِثْلِهِمْ، وَطَلَبُوا أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّماءِ، وَوَصَفُوا الرَّسُولَ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِالْجُنُونِ، ووسَموهُ بالكَذِبِ عليهِمْ والافتِراءِ على اللهِ ـ جَلَّ وَعَلَى، فَقد شَابَهُوا قَوْمَ نُوحٍ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وتَكَذيبِهِمْ، ولذلكَ فَقَدْ نَاسَبَ أَنْ يُضْرَبَ لَهُمْ مَثَلٌ بِقَوْمِ نُوحٍ، وما حلَّ بهِمْ مِنَ الهَلاكِ بالغرَقِ، لَيَحْذَروا أَنْ يُصيبَهُمْ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ مِنَ الْعَذَابِ الشَّديدِ، والعِقابِ الأَليمِ، والهَلاكِ والاسْتِئْصالِ.
وَقدْ جاءَ تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِـ (لَامِ الْقَسَمِ) تَأْكِيدًا لِلْمَضْمُونِ التَّهْدِيدِ في هَذِهِ الْقِصَّةِ.
قولُهُ: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ} أَيْ: فَدَعاهم نوحٌ إِلى توحيدِ اللهِ، وعِبادتِهِ ـ تَعَالَى، قائلًا لَّهُمْ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ.
قالَ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ"، أَيْ: أَطِيعُوا اللهَ ـ تَعَالى.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قالَ لَهُمْ وَحِّدُوا اللهَ ـ تَعَالَى. تَفْسِيرُ مُقاتِلِ بْنُ سُلَيْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: (2/30 أ).
قولُهُ: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أَيْ: قالَ لهمْ أَيْضًا: وحِّدوا اللهَ واعْبُدوهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ يحميكمْ ويخلِّصُكم مِنْ عقابِهِ، أو يَشْفَعُ لَكُمْ عِنْدَهُ، فهوَ الذي خَلَقَكُمْ وَصَوَّركُم كيفَ شاءَ، وَهوَ الَّذي يَحْفَظُكُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْديكُمْ، وَمِنْ خلْفِكُمْ أَنْ يَنْزِلَ شَرٌّ بكُمْ أوْ ضُرٌّ، وهوَ الذي يُغْدِقُ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً.
قولُهُ: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} وطالَمَا أنَّهُ لا إِلَهَ غيْرُهُ، ولا ربَّ لكم سِواهُ، أَفَلا يجدُرُ بِكُمْ أَنْ تَخَافُوا مِنْهُ، وتحذَروا عِقَابَهُ، بتجنُّبِكم معْصِيَتَهُ وإغضابَهُ؟ إِذًا فَلْتَحْذَرُوا أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ سِوَاهُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، اللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "قَدْ" حَرْفٌ للتَّحْقيقِ. و "أَرْسَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ.. و "نُوحًا" مَفْعولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "إِلَى" حَرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَرْسَلْنَا"، و "قَوْمِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجِّرِ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابٌ لِقَسَمٍ محذوفٍ تقديرُهُ: واللهِ لَقد أَرْسَلْنا .. ، ليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ، وُجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِسَرْدِ خَمْسِ قِصَصٍ، أَوَّلُهَا: قِصَّةُ نُوحٍ ـ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
قولُهُ: {فَقَالَ} الفاءُ: للعَطْفِ. و "قالَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلى "نُوحًا"، وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَرْسَلْنَا" على كونها جوابً لقَسَمٍ مُقدَّرٍ ليس لها محلٌّ مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {يَا قَوْمِ} يَا: أَدَاةُ نِدَاءٍ للبَعِيد، وَ "قَوْمِ" مَنْصوبٌ على النِّداءِ، وعلامةُ نَصْبِهِ فتحةٌ مُقدَّرَةٌ عَلَى ما قبلِ ياءِ المتكَلِّمِ المَحْذوفةِ تخفيفًا، لانْشِغالِ المحلِّ بالحَرَكةِ المناسِبةِ لِلياءِ، وهوَ مُضَافٌ، وَيَاءُ المتكلِّمِ المحذوفةُ للتَّخفيفِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، وُجُمْلَةُ النِّدَاءِ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولُ القولِ لِـ "قالَ".
قولُهُ: {اعْبُدُوا اللهَ} اعْبُدُوا: فِعْلُ أَمرٍ مبنيٌّ على حذفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ على الفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتفريقِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" مَفعولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القوْلِ لِـ "قَالَ" عَلَى أَنَّهَا جَوَابٌ النِّداءِ.
قولُهُ: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} مَا: نَافِيَةٌ. و "لَكُمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ تذْكيرِ الجمعِ. و" مِنْ" حرفُ جَرٍّ زَائدٍ. وَ "إِلَهٍ" اسمٌ مجرورٌ لفظًا بحرفِ الجَرِّ الزَّائدِ، مَرْفوعٌ بالابتداءِ مَحَلًا مُؤَخَّرٌ، وَ "غَيْرُهُ" صِفَةٌ للخَبَرِ "إِلَهٍ" مجرورَةٌ عَلَى المَحَلِّ مِثْلُهُ. وَقُرِئَ بِالْجَرِّ تَبَعًا لِلَّفْظِ، وُهُوَ جَائِزٌ, وَهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالَ" مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ الأَمْرِ بِالعِبَادَةِ.
قوْلُهُ: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} الهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهامِ الإِنْكَارِيِّ لِإِنْكَارِ وَاقِعِهِمْ البعيدِ عَنِ مخافةِ اللهِ واتِّقاءِ غَضَبِهِ دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَ "الفاءُ" حرفٌ للعطْفِ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ، وَالتَّقْديرُ: أَلَا تَعْرِفُونَ عَدَمَ وجودِ إِلَهٍ غَيْرِ اللهِ لَكُمْ، و "لَا" نَافِيَةٌ. وَ "تَتَّقُون" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثُبوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأسْماءِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ والتَّقْديرُ: عَذَابَهُ، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلَيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذوفِ، وَالتَّقْديرُ: أَلَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَتَتَّقونَ عَذَابَهُ، والْجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ، فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالَ".