الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 67
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} حَالٌ أُخْرى للمُشْرِكِينَ عِنْدَمَا
كَانُوا يَسْمَعُونَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يتلوا آياتِ القُرْآنِ الكريمِ فقدْ كانُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ {يَنْكِصُونَ} كَمَا قَالَ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ قُلْنَا هُنَاكَ أَنَّ مَعْنَى {يَنْكِصونَ} يَفِرُّونَ مِنْهَا وَيُصِمُّونَ آذانَهُمْ عَمَّا فيها مِنَ الخَيْرِ، وَيُديرُونَ إِلَيْها ظُهُورَهمْ.
وَهُنَا جَاءَ بِحَالٍ أُخْرَى لَهُمْ تَعْتَريهِمْ حَالَ سَمَاعِهِمْ آياتِ اللهِ تُبَيِّنُ سَبَبَ تَوَلِّيهِم عَلَى أَعْقَابِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِهِم آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: "مُسْتَكْبرينَ بِهِ" فَالسَّبَبُ إِذًا هُوَ اسْتِكْبَارُهُمْ.
ثمَّ اخْتَلَفَ المُفَسِّرونَ فِي سَببِ اسْتِكْبَارِ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ، فَقَالَ الجُمهورُ: إِنَّمَا كانَ اسْتِكْبَارُهُمْ بالْبَيْتِ فَهُمْ سَدَنَتُهُ وَحُمَاتُهُ، وَالْبَاءُ للسَّبِبَيَّةِ. وَسَوَّغَ هَذَا الإِضْمَارَ اشْتِهَارُ اسْتِكْبَارِهِمْ وَافْتِخَارِهِمْ عَلَى غيْرِهِم مِنَ العَرَبِ بِأَنَّهُمْ خُدَّامُ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ وَقُوَّامُهُ، وإِنْ لَّمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فإِنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْأَذْهَانِ إِذْ لَا يُسْمَعُ ضَمِيرٌ لَهُ مَعَادٌ إِلَّا وَيُعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَذَلِكَ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا كَانَ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذْ هُوَ مُجْتَمَعُهُمْ. فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَفِيهِ إِنْحَاءٌ باللَّائِمَةِ عَلَيْهِمْ لاسْتِكْبَارِهِمْ. وَقَريبٌ مِنْ هَذا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بعضُهُم مِنْ كَوْنِ الضَّمِيرِ عائدًا للحَرَمِ الشَّريفِ.
فَقد أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ
ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "مُسْتَكْبِرينَ بِهِ" بِمَكَّة بِالْبَلَدِ.
وأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "مُسْتَكْبِرينَ بِهِ" أَيْ: بِالْبَيْتِ وَالْحرَامِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ الطَّبَريُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "مُسْتَكْبِرينَ بِهِ" أَيْ: بِحَرَمِي.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ أَبي صَالِحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ "مُسْتَكْبِرينَ بِهِ" قَالَ: بِالْقُرْآنِ.
وَقَالَ أَبو حَيَّانَ الأنْدَلُسِيُّ في تَفْسِيرِهِ المُسَمَّى (البَحْرُ المُحيطُ): الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ {تَنْكِصُونَ} الآيةَ: 66، السَّابقة. وَتُعِقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ كَثَيرَ مَعْنًى، فَإِنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ جَعْلِ "مُسْتَكْبِرينَ" حَالًا. وَقَدِ اعْتَرَضَ بعضُهُم عَلَى ذَلِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في "بِهِ" عَائِدًا عَلَى الْآيَاتِ لِأَنَّهَا فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَيَكُونَ عِنْدَهَا "مُسْتَكْبِرِينَ" بِمَعْنَى: مُعْرِضِينَ اسْتِكْبَارًا، وَتَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى (عَنْ)، أَوْ أَنَّ "مُسْتَكْبِرِينَ" قد ضُمِّنَ مَعْنَى "سَاخِرِينَ" ولذلكَ فَقد عُدِّيَ بِالْبَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا التَّضْمِينِ.
وَفِي كَوْنِ اسْتِكْبَارِهِمْ فِي الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يَكُونَ مَظْهَرًا
لِلتَّوَاضُعِ وَغيرِهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنَّ هذا الِاسْتِكْبَارَ فِي مِثلِ هذا الْمَوْضِعِ الَّذِي يجِبُ أَنْ يكونَ شَأْنُ الْقَائِمِ فِيهِ مُتواضِعًا لِرَبِهِ قَانِتًا لَهُ حَنِيفًا، هُوَ مِنْ أَشْنَعِ الاسْتِكْبَارِ.
وَقالَ بَعْضُهُم: بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي "بِهِ" عائدٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَسَّنَ هَذا القولَ أَنَّ في قِوْلِهِ ـ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} الآيَةَ: 66، السَّابِقَةَ دَلَالَةً عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَكونُ الْبَاءُ حِينَئِذٍ لِلتَّعْدِيَةِ، وَيكونُ تَضْمِينُ "مُسْتَكْبِرِينَ" مَعْنَى "مُكَذِّبِينَ" لِأَنَّ اسْتِكْبَارَهُمْ هُوَ سَبَبُ التَّكْذِيبِ.
قولُهُ: {سَامِرًا تَهْجُرونَ} سامِرًا: حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ: حَالَ كَوْنِكُمْ سَامِرِينَ. فَالسَّامِرُ: هُوَ اسْمٌ لِجَمْعِ السَّامِرِينَ، أَيِ الْمُتَحَدِّثِينَ فِي سَمَرِ اللَّيْلِ، أَيْ ظُلْمَتِهِ، أَوْ ضَوْءِ قَمَرِهِ. مِنَ السَّمَرِ الذي هُوَ اسْمٌ لِمَا يَقَعُ عَلَى الشَّجَرِ مِنْ ضَوْءِ القَمَرِ، فَيَجْلِسُونَ إِلَيْهِ يَتَحَدَّثونَ مُسْتَأْنِسينِ بِهِ. كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ الحَارِثِ الجُرْهُمِيِّ، وَقيلَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو الجُرْهُمِيُّ، وَقِيلَ الحارِثُ الجُرْهُمِيُّ:
كأَن لم يكُنْ بين الحَجونِ إلى الصَّفا ..... أَنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكةَ سامِرُ
بَلَى، نَحنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبادَنَا ........... صُرُوفُ اللَّيالي وَالجُدودُ العَوَاثِرُ
الحَجُونُ" جَبَلٌ بِأَعْلَى مَكَّةَ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: السَّامِرُ: هُوَ اللَّيْلُ المُظْلِمُ، فإنَّهُم يَقُولُونَ: وَلَا آتِيْكَ مَا سَمُرُ ابْنَيْ سَمِيرٍ، وَيَعْنُونَ بِهِمَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
وَالسُّمْرَةُ: اسْمُ أَحَدِ الأَلْوانِ المَعْروفَةَ، والسَّمْراءُ: المَرأَةُ ذاتُ البَشَرَةِ السَّمْراءِ اللَّونِ، أَيْ: البَيْضاءُ المُشَرَبَةُ بسَوَادٍ خفيفٍ، وَكُنِّيَ بِهَا عَنِ الحِنْطَةِ للونِها الأسْمَرِ. وَقَدْ أُطْلِقَ السَّمَرُ عَلَى الْكَلَامِ فِي اللَّيْلِ. كَإِطْلاقِ اسْمِ "الْحَاجِّ" عَلى جماعةِ الْحُجَّاجُ، وَ "الْحَاضِرِ" عَلَى جَمَاعَةِ الْحَاضِرِينَ، وَهَكَذَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِـ "سَامِرًا" مَجْلِسُ السَّمَرِ حَيْثُ يَجْتَمِعُونَ لَيْلًا لِتبادُلِ أَطْرفِ الْحَدِيثِ، فَيَكُونُ نَصْبُهُ بنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: فِي سَامِرِكُمْ، كَمَا قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى، في الآيَةِ: 29، مِنْ سُورَةِ العَنْكَبُوتِ: {وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ في "سَامِرًا": كَانَ سَامِرُهُمْ لَا يَخَافُ، مِمَّا أُعْطُوا مِنَ الْأَمْنِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَخَافُ سَامِرُهُمْ، وَيَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ لَا يَخَافُونَ ذَلِكَ بِمَا أُعْطُوا مِنَ الْأَمْنِ.
وَ "تَهْجُرُونَ" ـ بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، مُضَارِعُ أَهْجَرَ: إِذَا قَالَ الْهُجْرُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَهُوَ اللَّغْوُ والسَّبُ وَالْكَلَامُ السَّيِّءُ. وَهو بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ هَجَرَ إِذَا لَغَا. وَقد كَانَ كُبَرَاءُ قُرَيْشٍ يَسْمُرُونَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَيَتَحَدَّثُونَ بالسُّوءِ عَنِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُكَذِّبونَهُ وَيَطْعَنُونَ فِي الدِّينِ. ويجوزُ أنْ يكونَ مِنَ الهَجْرِ بِسُكونِ الجِيمِ، ويَعْنِي القَطْعَ وَالصَّدَّ، أَيْ: تَهْجُرُون آياتِ اللهِ وَرَسُولَهِ وتَزْهَدُون فِيهِمَا، فَلَا تَصِلُونَهُمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مِنَ "الهَجَرِ" ـ بِفَتْحِ الجِيمِ، وَمَعناهُ الهَذَيانُ. يُقَالُ: هَجَرَ المَريضُ هَجَرًا أَيْ: هَذَى يَهْذي. وَقُرئَ: "تُهْجِرُونَ" بِضَمَّ التَّاءِ وَكَسْرِ الجيمِ مِنْ أَهْجَرَ إِهْجَارًا إِذا أَفْحَشَ القَوْلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُا، يَعْنِي: سَبُّ الصَّحَابَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقْرَأُ: "مُسْتَكْبِرينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ" قَالَ: كَانَ الْمُشْركُونَ يَهْجُرُونَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي القَوْلِ فِي سَمَرِهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قال فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "سَامِرًا تَهْجُرُونَ" قَالَ: تَسْمُرونَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَتَقُولُونَ هَجْرًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ "تَهْجُرُونَ": تَتَكَلَّمُونَ بالشِّرْكِ وَالْبُهْتَانِ فِي حَرَمِ اللهِ، وَعِنْدَ بَيْتِهِ، وَقَالَ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: "سَامِرًا تَهْجُرُونَ" كِتَابَ اللهِ
وَنَبِيَّ اللهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "سَامِرًا تَهْجُرُونَ": الْقُرْآنَ وَذِكْرِي وَرَسُولِي.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، أنَّهُ قالَ: "سَامِرًا تَهْجُرُونَ" فِيهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي مِنَ القَوْلِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "سَامِرًا" قَالَ: مَجَالِسًا، وَ "تَهْجُرُونَ": بالْقَوْلِ السَّيِّءِ فِي الْقُرْآنِ.
وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "سَامٍرًا تَهْجُرُونَ"، قَالَ: كَانُوا يَهْجُرُونَ عَلَى اللَّهْوِ وَالْبَاطِلِ. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ قَالَ: نَعَم. أَمَا سَمِعْتَ الشَّاعِرَ يَقُولُ:
وَبَاتُوا بِشِعْبٍ لَهُمْ سَامِرًا ..................... إِذَا خَبَتْ نِيرانُهُمْ أَوْقَدُوا
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلُهُ: "سَامِرًا تَهْجُرُونَ"، قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يَتَحَلَّقُونَ حِلَقًا يَتَحَدَّثُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهً قَرَأَ: "سامِرًا تَهْجُرُونَ"، ثمَّ قالَ: وَكَانُوا إِذَا سَمرُوا هَجَرُوا فِي القَوْلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "سَامِرًا تَهْجُرُونَ" قَالَ: تَهْجُرونَ الْحَقَّ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "مُسْتَكْبِرينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ" قَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بِالْبَيْتِ، تَقولُونَ: نَحْنُ أَهُلُهُ "تَهْجُرُونَ" قَالَ: كَانُوا يَهْجُرُونَهُ وَلَا يَعْمُرُونَهُ.
وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَسْمُرُ حَوْلَ الْبَيْتِ وَلَا تَطُوفُ بِهِ، وَيَفْتَخِرُونَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ ـ تَعَالَى: "مُسْتَكْبِرينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ" الآيَةَ.
قولُهُ تَعَالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا} مُسْتَكْبِرِينَ: منصوبٌ على الحالِ الأُولَى مِنْ ضميرِ الفاعِلِ في {تَنْكِصُونَ} مِنَ الجملةِ التي قبلَها. وعلامةُ النَّصْبِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ هي عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفردِ. وَ "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ بِمَعْنَى "في" مُتَعَلِّقٌ بِـ "مُسْتَكْبِرِينَ"؛ أَيْ: بِسَبَبِهِ، ويجوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بـ "سامِرًا"، وهَذا الضَّمِيرُ عائدٌ إِلَى القُرْآنِ الكريمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلى الحَرَمِ أَوِ البَيْتِ. أَوْ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِلنُّكوصِ الْمَدْلولِ عَلَيْهِ بِـ {تَنْكِصُونَ}. فيكونُ كقولِهِ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: 8، مِنْ سورةِ المائدةِ: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ للتَّقوى}. وَ "سَامِرًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ عَلَى كَوْنِهِ حَالًا ثَانِيَةً مِنْ فَاعِلِ {تَنْكِصُونَ}. وَفي كُلِّ هَذَا فالباءُ للسَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهمُ اسْتَكْبَرُوا بِسَبَبِ القُرْآنِ لَمَّا تُلِيَ عَلَيْهِمْ، وَبِسَبَبِ البَيْتِ لِأَنَّهُمْ يَقُولونَ: نَحْنُ وُلاتُهُ، وبِسَببِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُمْ يَقُولَونَ: هُوَ مِنَّا دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ بالنُّكوصِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الاسْتِكْبَارِ. وَقِيلَ: ضَمَّنَ الاسْتِكْبَارَ مَعْنَى التَّكذيبِ؛ فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بالباءِ، وَيَتَأَتَّى هَذَا إِذا كانَ الضَّميرُ عائدًا لِلْقُرْآنِ أَوْ لِلرَّسُولِ.
وأَمَّا عَلَى كوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بـ "سَامِرًا" فَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ الضَّمِيرُ عائدًا عَلَى مَا عَادَ عَلَيْه فِيمَا تَقَدَّمَ، إِلَّا النُّكُوصَ لِأَنَّهُمْ كانُوا يَسْمُرُونَ بِالْقُرْآنِ وبِالرَّسُولِ، أَيْ: يَجْعَلُونَهُمَا حَديثَ سَمَرِهِمْ في مجالِسِهم فَيَخُوضُونَ فِي ذَلِكَ كَمَا يَسْمُرُ السَّامرونَ عَادَةً بِالْأَحاديثِ، وَكَانُوا يَسْمُرُونَ في الْبَيْتِ، وعَلَيْهِ فالباءُ إِذًا ظَرْفِيَةٌ، وَ "سامِرًا" نَصْبٌ عَلَى الحَالِ: إِمَّا مِنْ ضميرِ الفَاعِلِ في {تَنْكِصُون}، وَإِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي "مُسْتَكْبرين".
قولُهُ: {تَهْجُرُونَ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِها حَالًا ثالثَةً مِنْ فَاعِلِ {تَنْكِصُونَ}، فهيَ إِمَّا أَحْوَالٌ مُتَرَادِفَةٌ مِنَ الوَاوِ فِي {تَنْكِصُونَ}،
أَوْ مُتَدَاخِلَةٌ؛ أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ حَالٌ مِمَّا قَبْلَهَا.
قرأَ العامَّةُ: {سامِرًا}، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو حَيَوَةَ، وعِكْرِمَةُ، والزَّعْفَرَانيُّ، وَمَحبوب عَنْ أَبي عَمْرِو بْنِ العلاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم: "سُمَّرًا" بِضَمِّ الفاءِ وَفَتْحِ العَيْنِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ـ أَيضًا، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍ، وأَبُو رَجَاءٍ، وَأَبو نُهَيكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ: "سُمَّارًا" كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ بَيْنَ المِيمِ وَالرَّاءِ، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ "سَامِرٍ". وَهَذانِ الجَمْعَانِ مَقِيسَانِ لـ "فَاعِل" ـ الصِّفَةِ، نَحْوَ: ضُرَّبٍ وَضُرَّابٍ في ضَارِبٍ. وَالأَفْصَحُ الإِفْرادُ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى مَا فَوْقَ الوَاحِدِ بِلَفْظِ الإِفْرادِ، فَتَقُولُ: قَوْمٌ سامِرٌ.
قرَأَ العَامَّةُ: {تَهْجُرُونَ} بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الجِيمِ، وَذلكَ مِنَ الهَجْرِ بِسُكونِ الجِيمِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَاصِمٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ: "سَامِرًا تَهْجُرُونَ" بِنَصْبِ التَّاءِ وَرَفْعِ الْجِيمِ. وَهُوَ يَعْنِي القَطْعَ وَالصَّدَّ، أَيْ: تَهْجُرُون آياتِ اللهِ وَرَسُولَهِ وتَزْهَدُون فِيهِمَا، فَلَا تَصِلُونَهُمَا. وَيَجوزُ أَنْ يكونَ مِنَ الهَجَرِ بِفَتْحِ الجيمِ وَمَعناهُ الهَذَيانُ. يُقَالُ: هَجَرَ المَريضُ هَجَرًا إِذا هَذَى، وهوَ فِعلٌ لَازِمٌ لا مَفْعولَ لَهُ. وقرأَ نافعٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: "تُهْجِرُون" بِضَمَّ التَّاءِ وَكَسْرِ الجيمِ مِنْ أَهْجَرَ إِهْجَارًا إِذا أَفْحَشَ المنطِقَ في القَوْلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، يَعْنِي: سَبُّ الصَّحَابَةِ.
وقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلَيٍّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَبُو نُهَيكِ "تُهَجِّرونَ" بَضَمِّ التَّاءِ، وفَتْحِ الهاءِ، وَكَسْرِ الجيمِ مُشَدَّدَةً مُضارِعَ هَجَّرَ بِالتَّشْديدِ. وَهُوَ
مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكونَ تَضْعِيفًا للهَجْرِ، أَوِ الهَجَرِـ أَوِ الهُجْرِ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبي عَاصِمٍ "يَهْجرونَ" كَالْعَامَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ باليَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ.