الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(11)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} وَقالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ مَرْيمَ ـ عَلَيْهَا السَّلامُ: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا} الآيةَ: 63، وَقالَ مِنْ سُورةِالزُّخْرُفِ: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآيةَ: 72.
و "الْفِرْدَوْس": الجَنَّةُ، وَقِيلَ: لَا يُسَمَّى البُسْتَانُ بالفِرْدَوْسِ إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ عِنَبٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وأَحمدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ الرُّبَيِّع ـ رَضِيَ اللهُ عنْها، أَتَتِ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ ـ رَضِي اللهُ عنْهُ، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ ـ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ أَجْتَهِدُ عَلَيْهِ الْبُكَاءَ "وفي رواية: الدُّعاء). فَقَالَ يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى)). قَالَ قَتَادَةُ: وَالْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا. أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: الطَّيَالِسِيُّ: (ص: 271، رقم: 2029)، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (7/363 رقم: 36713)، وأَحْمَدُ في: (3/210، رقم: 13232)، و: (3/260، رقم: 13777)، وَ: (3/283، رقم: 14060)، وَالبُخَارِيُّ: (4/24، وابن أبى شيبة (7/363 رقم 36713، رقم: 2809)، والتِّرْمِذِيّ: (برقم: 3174) وَقالَ: حَسَنٌ صحيحٌ. وابْنُ حِبَّانَ: (10/520، رقم: 4664)، وَالنَّسَائيُّ فِي "الكُبْرَى": (5/65 برقم: 8232)، وَالحاكِمُ: (3/229 برقم: 4930)، وَقالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَأَبُو يَعْلَى: (6/219، رَقم: 3500).
وقدْ تقدَّمِ مَعْنِى "يَرِثُونَ" فَي تفسيرِ الآيةِ السَّابقةِ، فإِنَّ المُؤْمِنينَ يَرْثُونَ مَنَازِلَهُمُ المُخَصَّصةَ لَهُمْ، المَبْنِيَّةَ بأَسْمائهم، ويَرِثونَ منازِلَ الكُفَّارِ التي بُنِيَتْ بأَسْمائهِمْ أَيْضًا لِأَنَّ الجميعَ خُلِقَ لِعِبَادَةِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، وَحْدَهُ دونَ نِدِّ أَوْ شَريكٍ، فَلَمَّا قَامَ الْمُؤْمِنُونَ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِبَادَةِ، وصَحَّتْ عقيدَتُهُم بِمَوْلَاهُمْ، وَتَرَكَ المُشْرِكُونَ والكُفَّارُ مَا لأجْلِهِ خُلِقُوا، وكانْتْ عقيدَتُهُم بربِّهم فاسِدةُ، فجحدوا بِهِ، أَوْ جَعَلوا لَهُ أَندادًا وَشُركاءَ في المُلْكِ أَوِ العبادةِ، أَعطى اللهُ ـ تَعَالَى ما كانَ مُخَصَّصًا لَهُم مِنَ الجَنَّةِ للمُؤمِنينَ فَكانَ لَهُمْ إِرْثًا. بَلْ جاءَ في الصَّحِيحِ ما هوَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا، فقدْ روى مُسلمٌ وغيرُهُ مِنْ حَديثِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أبي موسَى الأَشْعَريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((يَجِيءُ نَاسٌ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللهُ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى))، وَفِي روايةٍ أُخْرى لَهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَيُقَالُ: هَذَا فِكَاكُكَ مِنَ النَّارِ)). وَفِي رِوَايَةٍ لِلإمامِ أَحْمَدٍ في مُسْنَدِهِ: ((لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا أَدْخَلَ اللهُ مَكَانَهُ النَّارَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا)) (32/232) ط/دار الرِّسالةِ. فَاسْتَحْلَفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَبَا بُرْدَةَ بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِذَلِكَ، قَالَ: فَحَلَفَ لَهُ. صحيحُ مُسْلِم: (8/105). وَأَخْرَجَهُ الحاكِمُ: (4/281، رقم: 7644)، وقال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ: (499)، وأَبُو يَعْلَى: (7281)، وَأَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ في التاريخِ الكبيرِ: (1/38)، والطَّبَرَانِيُّ في مُسْنَدِ الشامِيِّينَ: (2554)، وَالْبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ وَالنًّشورِ: (93)، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي السُّنَّةِ: (276)، وأَبُو عُوَانَةَ بِهِ.
قولُهُ: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أَيْ: مُقِيمُونَ فِيها إِقَامَةً دَائِمَةً لا نهايةَ، فَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا ولا يُخْرَجونَ. وهم في ضيافةِ رَبِّهم وجوارِهِ، مُكَرَّمونَ مُنَعَّمُونَ، ولهم فيها ما لَا عينٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ مِنْ أَنْواعِ التَّكْريمِ وَأَلْوانِ النَّعيمِ، اللهمَّ اجْعَلَنَا بفضلكَ وكَرَمِكَ معهم وَمِنْهُمْ يا كريمُ.
قولُهُ تَعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} الَّذِينَ: اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ صِفَةً لِـ {الْوَارِثُونَ} مِنْ الآيةِ الَّتي قبلَها أَوْ خَبَرٌ ثانٍ للْمُبْتَدَأِ مِنْ تلكَ الجُمْلَةِ. و "يَرِثُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ ِلِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعَلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النَّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فَاعِلُهُ. وَ "الْفِرْدَوْسَ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذينَ" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هُمْ" ضَميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "فِيهَا" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالخَبَرِ "خَالِدُونَ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "خَالِدُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ، وعلامَةُ رَفْعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. وَهَذِهِ الجملة الاسْمِيَّةُ يَجُوزُ فِيها أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، ويجوزُ أَنْ تَكونَ حَالًا مُقَدَّرَةً: مِنَ فاعِلِ "يَرِثُون"، أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ؛ إِذْ فِيهَا ذِكْرُ كُلٍ مِنْهُمَا فتكونُ في محلِّ النَّصْبِ.