فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ الآية: 20
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ
(20)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} عَطْفٌ عَلَى {جَنَّاتٍ} مِنَ الآيةِ قبلَها، والمعنى: وَأَخْرَجْنَا لَكُمْ بِالماءِ الذي أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماءِ، وأَسْكَنَّهاهُ في الأَرْضِ شَجَرَةً مباركةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ المُبارَكِ لتجلِّي الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، عَلَيْهِ، حينَ سأَلَهُ موسَى ـ عَلَيْهِ الرُّؤْيةَ، بقولِهِ: {ربِّ أَرِني أَنْظُرْ إليكَ}، فأَجابَهُ: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} وتجلَّى اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ، للجَبَل {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} الآيةَ: 143، مِنْ سورةِ الأَعْرَافِ، ثمَّ انْتَشَرَتْ هَذِهِ الشَّجَرةُ فِيمَا حَوْلَ طُورِ سِينَاءَ معَ مرورِ السِّنينَ، لكِنَّها لمْ تَبْتَعِدْ عَنِ سواحِلِ البَحْرِ المُطِلِّ عَلَيْهِ جبَلُ طُورِ سِيناءَ، وهو البَحْرُ الأبيضُ المُتَوَسِّطُ، فَهِي كَمَا يُسَمِّيهَا عُلَماءُ النَّباتِ (شَجَرةٌ مُتَوسِّطِيَّةٌ).
فيكونُ قدْ ذكرَ اللهُ ـ جلَّ جلالُهُ، في هَذِهِ الآيةِ والَّتي قبلَها أكثرَ أَنواعِ الأَشْجَارِ نَفْعًا للإنْسانِ، وأَعَمَّها بركةً، وهيَ النَّخْلُ والعِنَبُ والزَّيتونُ. وَقَدْ نبَّهَنا نبيُّنا محمَّدٌ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، إِلى كَثرَةِ ما في شَجَرةِ الزَّيْتونِ مِنْ منافعَ فقالَ: ((كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ)). أَخْرَجُهُ الأئمَّةُ: عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، برقم: (13)، وَأَحْمَدُ: (3/497، برقم: 16151)، والدَّارِمِيُ برقم: (2052)، وَابْنُ مَاجَةَ برقم: (3319)، والتِّرمِذِيُّ برقم: (1851)، والنَّسائيُّ في "الكُبْرَى" برقم: (6669)، وأبو نٌعَيْمٍ: وَالطَبَرَانيُّ أَيْضًا، بَعْضُهُمْ أَخَرَجَهُ عَنْ عُمَرَ بِنِ الخَطَّابِ أَمِيرِ المُؤمنينَ، وبعضُهُم عَنْ أَبِي هُريرةَ، وَبَعْضُهُم عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ، أَوْ أَبِي أَسِيدِ بْنِ ثَابِتٍ ـ رَضِي اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. و "تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ" أَيْ نَشَأَتْ هُنَاكَ، وَطُورُ سَيْنَاءَ أَوْ طُورُ سِينِينَ: الطُّورُ: الْجَبَلُ. وَسَيْنَاءُ أَوْ سِينِينَ اسْمُ ذَلِكَ الْمَكَانِ، أَوْ اسْمُ شَجَرٍ يَكْثُرُ هُنَاكَ، وَقِيلَ اسْمُ حِجَارَةٍ. وَهُيَ صحراءُ واقعةٌ جنوبَ فلِسْطينَ، بينها وبيْنَ مِصْرَ.
قولُهُ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} وَالدُهْنُ: ـ بِضَمِّ الدَّالِ: هُو عُصَارَةُ كُلِّ شِيْءٍ ذِي دَسَمٍ، وَالدَّهْنُ ـ بِفَتْحِها: هوَ القيامُ بِعمليَّةِ مَسْحٍ شيْءٍ بِالَدُّهْنِ، وهو المَصْدَرُ مِنْ دَهَنَ يَدْهُنُ، وَالمُدَاهَنَةُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَكَأَنَّهُ يَمْسَح عَلَى صَاحِبِهِ لِيَسُرَّ خَاطِرُهُ و يُقِرَّ عينَهُ.
وَ "صِبغ" أَيْ هُوَ إِدَامًا يُصْبَغُ الخُبْزُ بِهِ، أَيْ يُغْمَسُ فِيهِ لِلِائْتِدَامِ بِهِ. وَالصَبْغُ، والصِّبَاغُ: هُوَ اسْمُ مَا يُصْبَغُ بِهِ، كَالدَّبْغِ وَالدِّباغِ. وقدْ عَطَفَ أَحَدَ وَصْفِيِ الشَّيْءِ عَلَى الآخَرِ؛ أَيْ: تَنْبُتُ هَذِهِ الشَّجَرَةُ بِالشَّيْءِ الجَامِعِ بَيْنَ كَوْنِهِ دُهْنًا يُدْهَنُ بِهِ، وسِراجًا يُسْرَجُ مِنْهُ لِيُسْتضاءَ بِهِ في ظلامِ الليْلِ، حيثُ كانَ النَّاسُ يَسْتَخْدِمُونَ زَيْتَ الزيتونِ والشَّمعَ بعدَ تَصْفيةِ العَسَلِ في إِضَاءَةِ بُيُوتِهِمْ وطرقاتِهِم في ظلامِ اللَّيْلِ قِبْلَ اكْتِشَافِ النِّفْطِ، وَمِنْ ثُمَّ اخْتِرَاعِ الكَهْرُباءِ.
قولُهُ تَعَالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "شَجَرَةً" مَنْصوبٌ بالمَفعوليَّةِ عَطْفًا عَلَى {جَنَّاتٍ} مِنَ الآيةِ التي قبلَ هَذِه. وَ "تَخْرُجُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ ضَمْيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هِيَ) يَعُودُ عَلَى "شَجَرَةً"، وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرِّ مُتعلِّقٌ بِـ "تخْرُجُ". و "طُورِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ. و "سَيْنَاءَ" مَجرورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، وعلامَةُ جَرِّهِ الفَتْحَةُ، بدلًا مِنَ الكَسْرَةِ لأنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ، بالعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنيثِ المَعْنَوِيَّ؛ فَهُوَ بِمَعْنَى "البُقْعَةِ"، وَأَلِفُهُ لَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ، بَلْ لِلْإِلْحاقِ بِـ "قِرْطَاسٍ". والْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، صِفَةً لِـ "شَجَرَةً".
قولُهُ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} تَنْبُتُ": فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ ضَمْيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هِيَ) يَعُودُ عَلَى "شَجَرَةً". و "بِالدُّهْنِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ في مَحَلِّ النَّصْبِ، عَلَى الحالِ مِنْ فَاعِلِ "تَخْرُجُ"؛ أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهَا مُلْتَبِسَةً بِالدَّهْنِ، مَصْحُوبَةً بِهِ، و "الدُّهْنِ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجَرِّ. وَ "وَصِبْغٍ" الواوُ: للعَطْفِ، و "صِبْغٍ" مَعْطوفٌ عَلَى "الدُّهْنِ" مَجْرُرٌ مِثْلُهُ. و "لِلْآكِلِينَ" اللَّامُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "صِبْغٍ"، و "الْآكِلِينَ" مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وعلامَةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً ثانِيَةً، لِـ "شَجَرَةً".
قَرَأَ العامَّةُ: {سَيناءَ} بِفَتْحِ السِّينِ. وقرَأَ الأَعْمَشُ كَذِلِكَ "سَيْنَا" بغيرِ همزةٍ فَقَصَرَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو "سِينَاءَ" بِكَسْرِ السِّينِ، فالهَمْزَةُ فِيهَا لَيْسَتْ للتَّأْنِيثِ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الكَلَامِ "فِعْلَاءَ" بِكَسْرِ الأَوَّلِ، وَهَمْزَتُهُ للتَّأْنِيثِ، بَلْ لِلإِلْحَاقِ، كَ "سِرْداح" وَ "قِرْطاس" فَهِيَ ك "عِلْبَاء" فَتَكُونُ الهَمْزَةُ مُنْقَلِبَةً عَنْ يَاءٍ أَوْ وَاوٍ؛ لِأَنَّ الإِلْحَاقَ يَكُونُ بِهِمَا، فَلَمَّا وَقَعَ حَرْفُ العِلَّةِ مُتَطَرِّفًا بَعْدَ أَلِفٍ زَائِدَةٍ قُلِبَتْ هَمْزَةً ك "رِداءٍ" و "كِسَاءٍ".
قَالَ أَبو علِيٍّ الفَارِسِيُّ: وَهِيَ اليَاءُ الَّتِي ظَهَرَتْ في "دِرْحايَة". و "الدِّرْحايَةُ": الرَّجُلُ القَصِيرُ السَّمِينُ. وَجَعَلَ العُكْبُرِيُّ أَبُو البَقَاءِ هَذِهِ الهَمْزَةَ أَصْلِيَّةً فَقَال: والهمزةُ عَلى هَذَا أَصْلٌ، مِثْلُ "حِمْلاقٍ" وَلَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ، إِذْ لَيْسَ فِي الكَلَامِ مِثْلُ "حِمْراء"، وَاليَاءُ أَصْلٌ، إِذْ لَيْسَ فِي الكَلَامِ "سَنَأَ"، يَعْنِي: مَادَّةَ "سِين" و "نُون" و "هَمْزَة".
وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، مِنْ كَوْنِهَا بَدَلًا مَنْ زَائدٍ مُلْحَقٍ بِالْأَصْلِ. عِلَى أَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمِلٌ للتَّأْويلِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ للتَّعْريفِ وَالتَّأْنِيثِ؛ لِأَنَّهَا اسْمُ بُقعةٍ بِعَيْنِهَا، وَقِيلَ: مُنِعَ لِلتَّعْريفِ والعُجْمة.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ "سِيْناءَ" اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ نَطَقَتْ بِهِ العَرَبُ فاخْتَلَفَتْ فِيهِ لُغَاتُهُم، فَقَالُوا: سَيْنَاءَ: كَ "حَمْرَاءَ" و "صَفْرَاءَ. وَ "سِيْنَاءَ"، ك "عِلْبَاءَ" و "حِرْبَاءَ"، وَ "سِيْنينَ" كَ "خِنْذِيْذ" وَهُوَ الفَحْلُ وَالْخَصِيُّ، فَهُوَ مِنَ الأَضْدَادِ، وَهُوَ أَيْضًا رَأْسُ الجَبَلِ المُرْتَفِعُ، وَكَ "زِحْلِيلٍ"، وَهُوَ المُتَنَحِّي، مِنْ قولِهِم: زَحَلَ، إِذَا تَنَحَّى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: طُوْرُ سَيْنَاءَ، وَطُورُ سِينِينَ: لَا يَخْلُوا: إِمَّا أَنْ يُضَافَ فِيهِ الطُّورُ إِلَى بُقْعَةٍ اسْمُهَا سَيْنَاءَ، وسِينُونَ، وَإِمَّا أَنْ يَكونَ اسْمًا للجَبَلِ مُرَكَّبًا مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إِلَيْهِ كَ "امْرِئِ القَيْسِ" و "بَعْلَ بَكّ"، فِيمَنْ أَضَافَ. فَمَنْ كَسَرَ سِينَ "سِينَاءَ" فَقَدْ مَنَعَ الصَّرْفَ للتَّعْرِيفِ والعُجْمَةِ، أَوِ التَأْنِيثِ، لِأَنَّها بُقْعَةٌ و "فِعْلاءُ" لَا تَكُونُ أَلِفُهُ للتَّأْنيثِ ك "عِلْباءَ" و "حِرْباءَ". قالَ السَّمينُ الحلبيُّ: وَكَوْنُ أَلِفِ "فِعْلاءَ" بِالْكَسْرِ لَيْسَتْ لِلتَّأْنيثِ هوَ قَوْلُ أَهْلِ البَصْرَةِ، وَأَمَّا الكُوفِيُّونَ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ أَلِفَهَا تَكونُ لِلتَّأْنيثِ، فَهِي عِنْدَهُمْ مَمْنُوعَةٌ لِلتَّأْنيثِ اللَّازِمِ، كَ "حَمْرَاءَ" وَبابِهَا. وَكَسْرُ السِّينِ مِنْ "سِيْناءَ" لُغَةُ كِنَانَةَ.
وأَمَّا قِراءَةُ العامَّةِ، فَأَلِفُهَا لِلتَّأْنِيثِ، فَمَنْعُ الصَّرْفَ وَاضِحٌ. قَالَ أَبُو البَقَاءِ: وَهَمْزَتُهُ لِلتَّأْنيثِ، إِذْ لَيْسَ فِي الكَلَامِ "فَعْلَال" بالفَتْحِ. وَمَا حَكَى الفَرَّاءُ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ فِيهَا "خَزْعَال" فَلَا يَثْبُتُ، وَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ شَاذٌّ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَقَدْ وَهِمَ بَعْضُهُمْ فَجَعَلَ "سَيْنَاءَ" مُشْتَقَّةً مِنَ السَّنَا، وَهُوَ الضَّوءُ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ عَرَبِيَّ الوَضْعِ. نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالثاني: أَنَّا وَإنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ عَرَبيُّ الوَضْعِ، لَكِنِ المَادَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَإِنَّ عَيْنَ "السَّنَا" نُونٌ، وَعَيْنَ "سَيْنَاءَ" يَاءَ.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إِذْ لِقَائلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَيْنَ "سَيْنَاءَ" يَاءٌ، نُونٌ وياؤُها مَزيدَةٌ، وَهَمْزَتُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ كَمَا قُلِبَتِ في السَّنَاءُ، وَوَزْنُهَا حِينَئِذٍ "فِيْعَال"، و "فِيْعال" مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ العَربِ، ك "مِيْلاعَ" و "قِيْتَالَ" مصدرِ "قاتَلَ".
قَرَأَ العامَّةُ" {تَنْبُتُ} بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الباءَ. وهيَ وَاضِحَةٌ، فَالبَاءُ مِنْ "بالدُّهْنِ" لِلْحَالِ مِنَ الفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى: تَنْبُتُ مُلْتَبِسَةً بِالدُّهْنِ، أَيْ: وَفِيهَا الدُّهْنُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبو عَمْرٍو، "تُنْبِتُ" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ البَاءِ. وَفِيهَا ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ "أَنْبَتَ" بِمَعْنَى "نَبَتَ" فَهُوَ مِمَّا اتَّفَقَ فِيهِ "فَعَلَ" و "أَفْعَلَ" فهوَ كقول زُهَيْرِ بْنِ أبي سُلْمى:
رَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ عِنْدَ بُيُوتِهِمْ ....... قَطِيْنًا لَهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ البَقْلُ
أَيْ: نَبَتَ البَقْلُ، وَقدْ أَنْكَرَ الأَصْمَعِيُّ هَذا القَوْلَ.
الثاني: أَنَّ الْهَمْزَةَ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ المَعْنَى. أَيْ: تُنْبِتُ ثَمَرَهَا، أَوْ جَنَاهَا. وَ "بِالدَّهْنِ" أَيْ: مُلْتَبِسًا بِالدَّهْنِ.
الثالثُ: أَنَّ الباءَ مَزيدَةٌ فِي المَفْعُولِ بِهِ كما هيَ فِي قولِهِ ـ تعالى، في الآيةِ: 195، مِنْ سورةِ البقرةِ: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ}، وَكَما هي في قَوْلِ عُبيدِ بْنِ حُصَيْنٍ الرَّاعِي النُّميْرِيِّ:
هُنَّ الحَرَائِرُ لَا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ ............ سُوْدُ المَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
وكما قالَ النَّابغَةُ الجَعْدِيُّ:
نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَرْبابُ الفَلَجْ ........... نَضْرِبُ بالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالفَرَجْ
أَيْ نَرْجُو الفَرَجَ.
وَقَرَأَ الحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ هُرْمُزٍ: "تُنْبَتُ" مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ، مِنْ أَنْبَتَهَا اللهُ. وَ "بِالدُّهْنِ" حَالٌ مِنَ القَائِمِ مَقَامَ الفَاعِلِ، أَيْ: مُلْتَبِسَةً بِالدُّهْنِ.
وَقَرَأَ زَرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: "تُنْبِتُ الدُّهْنَ" مِنْ أَنْبَتَ، وَسُقُوطُ الباءِ في هذهِ القراءةِ يَدُلُّ عَلَى زِيادَتِهَا في قَراءَةِ مَنْ أَثْبَتَهَا.
وَقَرَأَ الأَشْهَبُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ: "بالدِّهَانِ" وَهُوَ جَمْعُ دُهْنٍ، كَ "رُمْحٍ" و "رِماحٍ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ "تُثْمِرُ"، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "تَخْرُجُ" فَتَفْسِيرٌ وَليسَ قِرَاءَةً، وذلكَ لِمُخَالَفَةِ السَّوَادِ الأعظَمِ مِنَ القُرَّاء، واللهُ أَعلمُ.
قَرَأَ العامَّةُ: {وَصِبْغٍ} بالجَرِّ نَسَقًا عَلَى "بالدُّهْن". وقرأَ الأَعْمَشُ: "وَصِبْغًا" بِالْنَّصْبِ نَسَقًا عَلَى مَوْضِعِ "بالدُّهْنِ" كَقِرَاءَةِ {وأَرْجلَكم} فِي أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ، وقرأَ عامِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ "وَصِبَاغٍ" بِالْأَلِفِ، وَكَانَتْ هَذِهِ القِراءَةُ مُنَاسِبَةً لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ "بالدِّهان".