الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 69
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} أَيْ: أَلمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ مِنْ قَبْلِ ادِّعَائِهِ الرِّسَالَةَ أَنَّهُ كانَ فِي قِمَّةِ الصِّدْقِ الْأَمَانَةِ، وغيرِ ذِلِكَ مِنْ مكارمٍ الأَخْلاقِ، كما كانَ بعيدًا غَايَةَ الْبُعْدِ مِنَ الغَدْرِ والخيانةِ وَالْكَذِبِ وَغيرِها مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، حتَّى أَنَّهُم كانوا يلَقِّبونَهُ بالصادقِ الأمينِ منذُ نُعومَةِ أظفارهِ حتى بلَغَ الأربعينَ مِنْ عُمرِهِ، وكانَ مِنْ خيرِهِمْ حسَبًا ونَسَبًا، فَبَنُوا هَاشِمٌ أَشْرافُ العَرْبِ وأكْرمُهُم وأَرفعُهُم حَسَبًا، وجَدُّهُ عبدُ المُطَّلِبِ زعيمُهُم والتقيُّ النقيُّ فيهِم. فَكَيْفَ كَذَّبُوهُ بَعْدَ أَنِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِالْأَمِينِ، حينَ حَمَلَ إليهِمْ رِسالةَ رَبِّ العالمينَّ!. ثُمَّ إِنَّ صِفاتِهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، ورسالتَهُ كانَتْ مَذكورةً في الكتُبِ السَّماويَّةِ، وكانَ اليهودُ والنَّصارى يبشِّرونَ بهِ، ويتوعَّدُونَ العربَ بأنْ يقاتلوهم معه وينتصروا عليهِمْ، قالَ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: 146، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الآيتانِ: (20 و 21). إِذًا فَهُمْ يَعْرِفُونَهُ، ويعرفونَ صِفاتِهِ بالتَّفصيلِ، وهذا ما أوضحتهُ السِّيرَةُ النَّبويةُ المُشَرَّفةُ، حِينَ كانَ يَأْتِيهِ بعضُ أهلِ الكتابِ فيَتَحَقَّقُ مِنْ وُجودِ هذِهِ الصِّفاةِ فيهِ قبلَ أنْ يُعْلِنَ إِيمانَهُ بِهِ وإِسْلَامَهُ، وهي كثيرةٌ مَرْوِيَّةٌ بأَحاديثَ مُوَثَّقةٍ صَحِيحَةٍ.
قولُهُ: {فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} أَيْ: فهُمْ مُنْكِرُونَ لِصِفَاتِهِ الْكَامِلَةَ. فَتَعْلِيقُ الضَمِيرِ مِنْ "لَهُ" العائدِ لذَاتِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، بِـ "مُنْكِرُونَ" هُوَ مِنْ بَابِ إِسْنَادِ الْحُكْمِ إِلَى الذَّاتِ وَالْمُرَادُ صِفَاتُهَا، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ الصِّدْقُ والأَمانَةُ وَغيرُها. كما قالَ ـ تَعَالى، مِنْ سورةِ يونُسَ ـ عليْهِ السَّلامُ: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} الآيةَ: 16.
وَإنَّما كانَ جُحُودُهم ِنُبُوَّتَهُ ـ عليْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أَنْ لَمْ تَكُنِ الرِّسالةُ فيهِم، فإنَّ الكَثيرَ مِنْهُمْ كانَ يتَمَنَّاهَا لِنَفْسِهِ، ويتوقَّعُها فَي قبيلِهِ، وَهَذَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بَشُؤونِ الإرْسالِ وحقيقةِ الرِّسَالَةِ.
قولُهُ تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} أَمْ: حَرْفُ عَطْفٍ، بِمَعْنَى "بَلْ" الانْتِقالِيَّةِ، وَهَمْزَةُ الاسْتِفهَامِ الاسْتِنْكَاريِّ التَّعْجِيبيِّ؛ أَيْ: بَلْ أَلَمْ يَعْرِفُوا. و "لَمْ" حرفُ نفيٍ وجَزْمٍ وقلبٍ. و "يَعْرِفُوا فِعْلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بِهَا، وَعَلامَةُ جزْمِهِ حَذِفُ النُّون مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، والأَلِفُ للتَّفريقِ، وَواوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتَّفريقِ. و "رَسُولَهُمْ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، و "هُمْ" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ {لَمْ يَدَّبَّرُوا} عَلى كونِها جملةً مَعطوفةً على جملةٍ مُسْتَأْنفةٍ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.