الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 55
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} في الآيةِ التي قبلَها أَمَرَ اللهُ رَسولَهُ مُحَمَّدًا ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أَنْ يَدَعَ المُشركينَ في غَفْلَتِهِمْ عنْ مَوْلَاهُمْ وما فيهِ صَالِحُ آخِرَتِهم ودُنياهُمْ لِأَنَّهم لا يُريدونَ أَنْ يَتَنَبَّهُوا، وكَّلُّ هَمِّهِم التَّمَتُّعُ بِمَا فِي أَيْديهِم مِنْ نِعَمِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، فلا يَرْعُوُونَ لهدايةٍ، وَلَا يَسْتَمِعُونَ لِنُصْحٍ.
وفي هَذِهِ الآيةِ المُبَاركةِ يَقُولُ ربُّنا ـ تَبَارَكَ وتَعَالى: أَيَحْسَبُ هؤلاءِ المُشْرِكونَ أَنَّ الَّذي نُمِدُهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ مُجَازاةً لَّهُمْ؟ فَإِذا كانوا يظُنُّونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ واهِمونَ، إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ لَّهُم لِيَغْرَقُوا في غَفْلَتِهِمْ أَكْثَرَ، فَتَزْدَادَ خَطاياهُم، ويَتَضَاعَفَ عَذابُهُم، لأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِم، وَلَمْ يَرَعَوُا لِنُصْحِ رَسُولِهِم ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
فَمعنى الْإِمْدَادِ: هُوَ تَواصُلُ الْعَطَاءِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هُنَا لِتَوْبيخِهِم عَلَى هَذَا الْظَّنِّ، والإِنْكَارِ علَيْهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ حَاصِلًا لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ لِلبَعْضِ مِنْهُم، فَإِنَّ حَالَهُمْ حَالُ مَنْ هُوَ مَظِنَّةُ مِثْلِ هَذَا الْظَّنِّ. وَقَدْ تَمَّ الكَلامُ هُنَا، وَالمَعْنى: أَيَظُنُّ هَؤُلَاءِ الكَفَرةُ المُشْرِكونَ أَنَّ ذَلِكَ المَدَدَ خَيْرٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا؟!.
قولُهُ تَعَالى: {أَيَحْسَبُونَ} الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهَامِ الإِنْكَارِيِّ التَّقْريعِيِّ التَّوبيخيِّ. و "يَحْسَبُونَ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {أَنَّمَا} "أَنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعْلِ للتَّوكيدِ، وَ "ما" اسْمٌ مَوْصولٌ بِمَعنَى الَّذي مبنيٌّ على السَّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُ "أَنَّ" وَ "نُسَارِعُ" خَبَرُها، والعائدُ مِنْ هَذِهِ الجُمْلَةِ إِلَى اسْمِ "أَنَّ" مَحْذُوفٌ والتَّقْديرُ: نُسَارِعُ لَهُمْ بِهِ، أَوْ فِيهِ، إِلَّا أَنَّ حَذْفَ مِثْلِهِ قَلِيلٌ. وَقِيلَ: الرَّابِطُ بَيْنَ هَذِهِ الجُمْلَةِ بِاسْمِ "أَنَّ" هُوَ الظَّاهِرُ الَّذي قَامَ مَقَامَ الضَّميرِ مِنْ قَوْلِهِ "في الخَيْرَاتِ"، إِذِ الأَصْلُ: نُسَارِعُ لَهُمْ فِيهِ، فَأُوقِعَ "الخَيْرَاتِ" مَوْقِعَهُ تَعْظِيمًا وَتَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الخَيْراَتِ. وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى مَذْهَبِ سَعِيدٍ الأَخْفَشِ؛ فإِنَّهُ يَرَى الرَّبْطَ بالأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الأَوَّلِ، فَإنَّهُ يُجيزُ أنْ يُقالَ: زَيْدُ الَّذي قَامَ أَبُو عَبْدِ اللهِ. إِذَا كانَ "أَبُو عَبْدِ اللهِ" كُنْيَةً لـ "زَيْدٍ". وَقالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ الخَبَرَ "مِنْ مالٍ" لأنَّه كانَ "مِنْ مَالٍ"، فَلَا يُعَابُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُعَابُ عَلَيْهِمْ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ تِلْكَ الأَمْوالَ خَيْرٌ لَّهُمْ. وَيَجوزُ أَنْ تَكُونَ "مَا" مَصْدَرِيَّةً، فَيَنْسَبِكُ مِنْهُ وَمِمَّا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ هُوَ اسْمُ "أَنَّ" وَ "نُسارع" هُوَ الخَبَرُ. وَعَلى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ "أَنْ" الْمَصْدَرِيَّةِ قَبْلَ "نُسارعُ" لِيَصِحَّ الإِخْبَارُ، والتقديرُ: أَنْ نُسَارِعَ. فَلَمَّا حُذِفَتْ "أَنْ" ارْتَفَعَ المُضَارِعُ بَعْدَهَا، والتقديرُ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّ إِمْدادَنا لَهُمْ مِنْ كَذَا مُسَارَعَةٌ مِنَّا لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ. وَيَجوزُ عندَ الكِسائيِّ أَنْ تَكونَ "مَا" في هَذِهِ الآيَةِ مُهَيِّئَةً كافَّةٌ، وَحِينَئِذٍ يُوقَفُ عَلَى "وَبَنِينَ" لِأَنَّهُ يكونُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ فِعْلِ الحُسْبانِ نِسْبَةٌ مِنْ مُسْنَدٍ وَمُسْنَدٍ إِلَيْهِ نَحْوَ قولِكَ: حَسِبْتُ أَنَّمَا يَنْطَلِقُ عَمْرٌو، وَإِنَّمَا تَقُومُ أَنْتَ، وَقد كانَ مِنْ حَقِّ "مَا" أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً، وَلَكِنَّهَا وُصِلَتْ اتْبَاعًا لِرَسْمِ المُصْحَفِ الشَّريفِ. وَجُمْلَةُ "أَنَّ" مِنِ اسْمِها وخبرِها في محلِّ النَّصْبِ على كونِها مفعولًا بهِ لِـ "يَحْسَبُونَ".
قولُهُ: {نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} نُمِدُّهُمْ: فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُ "نُمِدُّ"، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُمِدُّ"، وَهُوَ العائدُ عَلَى الْمَوْصُولِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنَ الاسْمِ الْمَوْصُولِ، و "مَالٍ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "وَبَنِينَ" الواوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "بَنِينَ" مَعْطُوفٌ عَلَى "مَالٍ" مجرورٌ مِثْلُهُ، وعلامَةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ مِنَ الأسْماءِ الخمسَةِ، والنُّونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. وَالجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "ما" المَوْصُولةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قرأَ الجُمْهورُ: {أَنَّما} بِفتْحِ الهَمْزةِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ "إِنَّمَا" بِكَسْرِ الهمزةِ عَلَى الاسْتِئْنَافِ، وَيَكُونُ حَذْفُ مَفْعُولَيِ "حَسِبَ" اقْتِصَارًا، أَوْ اخْتِصَارًا.
قرَأَ الجمهورُ: {نُمِدُّهُم} بالنَّونِ وضميرُ المُتَكَلِّمِ للهِ ـ تَباركَ وتَعَالى، وقرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ـ فِي رِوَايَةٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو الجَوْزاءِ: "يُمِدُّهم" بيَاءِ الغَيْبَةِ، والضَّميرُ للهِ ـ تَعَالَى، أَيضًا. وَقَرَأَ أَبُو عِمْرانَ الجُونِيُّ: "نَمُدُّهُم" بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَفْعِ المِيمِ.