فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ
(7)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} ابْتَغَى: أَيْ طلبَ، تَقولُ: ابْتَغَيْتُ الشَّيْءَ وتَبَغَّيْتُهُ، إِذَا طَلَبْتَهُ وَبَغَيْتَهُ. وَمِنْ ذَلكَ قولُ سَاعِدَةَ ابْنِ جُؤْيَّةَ الهُذَليِّ:
ولَكِنَّمَا أَهْلِي بِوادٍ أَنِيسُهُ ............... سِبَاعٌ تَبَغَّى النَّاسَ مَثْنَى وَمَوْحَدَا
وَالبُغْيَةُ: الحَاجَةُ. وَالْبِغْيَةُ: الحَالُ الَّتِي تَبْغِيها. وَبَغَى الرَّجُلُ ضَالَّتَهُ بُغايَةً: نَشَدَهَا، وسَعَى في طَلَبِها، وَكُلُّ طِلْبَةٍ بُغَاءُ (بالضَّمِّ والمَدِّ)، أَيْضًا.
وَبَغَيْتُ الشَّيْءَ: طَلَبْتُهُ. وَيُقَالُ بَغَيْتُ المَالَ مِنْ مَبْغَاتِهِ، كَقُولِكَ: أَتَيْتُ الأَمْرَ مِنْ مَأْتاتِهِ. وَبَغَيْتُهُ الشَّيْءَ: طَلَبتُهُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعَرِ:
أتاني حِماسٌ بابْنِ مَاهٍ يَسُوقُهُ ................. ليَبْغِيَهُ خَيْرًا وَلَيْسَ بِفَاعِلِ
وَ "حِمَاسٌ" اسمُ الرَّجُلِ الذي سَاقَ ابْنَ مَاهٍ، وَبَعْدَهُ:
ليُعْطِيَ عَبْسًا مَالَنَا، وَصُدُورُنَا ........ مِنَ الغَيْظِ تَغْلِي مِثْلَ غَلْيِ المَرَاجِلَ
وقافِيَةٍ قِيلَتْ لَكُمْ لَمْ أَجِدْ لَهَا .......... جَوَابًا إِذَا لَمْ تُضْرَبُوا بِالْمَنَاصِلِ
وَأَصْلُ البَغْيِ: التَّعَدِّي عَلَى الغَيْرِ وُظُلْمِهِ. يٌقَالُ بَغَى الرَّجُلُ عَلى جَارِهِ: أَيْ اسْتَطَالَ عَلَيْهِ. وبَغَى الأَمِيرُ عَلَى رَعيَّتِهِ: ظَلَمَها. وَبَغَتِ السَّمَاءُ: اشْتَدَّ مَطَرُها. وبَغَى الجُرْحُ: وَرِمَ وأَزِمِ. وَبَغَتِ المَرْأَةُ بِغَاءً، أَيْ زَنَتْ، فَهِيَ بَغِيٌّ، وَيُجْمَعُ عَلى "بَغايا". وَالبَغايا أَيْضًا. الطَّلَائِعُ الَّتي تَكونُ قَبْلَ وُرُودِ الجَيْشِ. وَبَغْيُ الفَرَسِ: اخْتِيَالُها وَمَرَحُها.
ويَنْبَغي، مِنْ أَفْعَالَ المُطَاوعَةِ، وتَقولُ: بَغَيْتُهُ الشَّيْءَ فانْبَغَى، كَ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ. وَأَبْغَيْتُهُ الشَّيْءَ: أَعَنْتُهُ عَلَى طَلَبِهِ. أَوْ: جَعَلْتُهُ طَالِبًا لَهُ. وتَبَاغَوا، بَغَى بَعُضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
و "وراءَ" هي هَهُنَا بِمَعْنَى (سِوَى)، كالِّتي في قولِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ البقَرَةِ: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} الآيَةَ: 91. وَ "الْعَادُونَ" هُمُ الظالمونَ الجائرونَ المُتَعَدُّونَ للحُدُودِ الَّتِي رَسَمَهَا اللهُ لَهُمْ في كتَابِهِ، وَبَيَّنهَا لَهُمْ رَسُولُهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ فِي تَفْسِيرِهِ: (2/29،أَ ـ ب): فَمَنِ ابْتَغَى الفَوَاحِشَ بَعْدَ الأَزْوَاجِ وَالْوَلائِدِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ"، الآيةَ. يَقُولُ: مَنْ تَعَدَّى الْحَلَالَ أَصَابَهُ الْحَرَامُ.
وَقَالَ أبو العَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: هُمُ المُتَجَاوِزُونَ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُمْ. يَعْنِي: يَتَعَدُّونَ الحَلَالَ إِلَى الحَرَامِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ"، الآيةَ. قَالَ: الزِّنَا.
هَذا وَإِنَّ تِلْكَ الرُّخْصَةَ للرِّجَالِ بإمائهِمْ لا يُقَابِلُهَا رُخْصَةٌ للنِّساءِ بما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ مِنَ الغِلْمَانِ والعَبِيدِ فَقد أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئِلَتِ السِّيِّدةُ عَائِشَةُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُا، عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، فَقَالَتْ: بَيْنِي وَبَيْنَكُم كِتَابُ اللهِ، وَقَرَأَتْ: {وَالَّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ مَا زَوَّجَهُ اللهُ أَوْ مَلَكَهُ فَقَدْ عَدَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي ناسِخِهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَرَى تَحْرِيمَهَا فِي الْقُرْآنِ ثُمَّ تَلَا: {وَالَّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فإنَّهم غيرُ مَلُومينَ}.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: تَسَرَّتِ امْرَأَةٌ غُلَامًا لَهَا، فَذَكَرَتْ لِعُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَسَأَلَهَا: مَا حَمَلَكِ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَتْ: كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لِي مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ مُلْكِ الْيَمِينِ.
فَاسْتَشَارَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِيهَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: تَأَوَّلَتْ كِتَابَ اللهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ.
فَقَالَ عُمَرُ: لَا جَرَمَ، وَاللهِ لَا أُحِلُّكِ لِحُرٍّ بَعْدَهُ أَبَدًا. فكَأَنَّهُ عِاقِبِهِا بِذَلِكَ، وَدَرَأَ الْحَدَّ عَنْهَا، وَأَمَرَ العَبْدَ أَن لَّا يَقْرَبَهَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّهً سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: حَضَرْتُ عُمَرَ ابْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ بِغُلَامٍ لَهَا رُومِيٍّ، فَقَالَ: إِنِّي اسْتَسْرَيْتُهُ، فَمَنَعَنِي بَنُو عَمِّي، وَإِنَّمَا أَنَا بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَكونَ لَهُ الوَلِيدَةُ فَيَطَؤُهَا، فَأَبَى عَلَيَّ بَنُو عَمِّي، فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: أَتَزَوَّجْتِ قَبْلَهُ؟ قَالَتْ: نَعَم. قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَوْلَا مَنْزِلَتُكِ مِنَ الْجَهَالَةِ لَرَجَمْتُكِ بِالْحِجَارَةِ.
كَمَا نَصَّ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ المُحَلَّلَةَ للرَّجُلِ مِنَ الإِمَاءِ هِيَ مَا مَلَكَتْهَا يَمِينُهُ هُوَ، فَإِنَّ الفَرْجَ لا يُعَارُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ـ رضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ البصْرِيِّ أَيضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يُعَارُ الْفَرْجُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ أَحَلَّتْ جَارِيَتَهَا لِزَوْجِهَا، فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَطَأَ فَرْجَا إِلَّا فَرْجًا، إِنْ شِئْتَ بِعْتَ، وَإِنْ شِئْتَ وَهَبْتَ، وَإِنْ شِئْتَ أَعْتَقْتَ. مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيِّ: (7/215، رقم: 12847)
وَأَخْرَجَ عبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ فِي مُصَنَّفِهِ: (7/215) عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي كَانَتْ لَهَا جَارِيَةٌ وَإِنَّهُ أَحَلَّتْهَا إِلَيَّ أَطُوفُ عَلَيْهَا. فَقَالَ: لَا تَحِلُّ لَكَ إِلَّا أَنْ تَشْتَرِيَهَا أَوْ تَهَبَهَا لَكَ.
وَقد وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، خَلَافُ ذَلِكَ. فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَحَلَّتِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ، أَوْ ابْنَتُهُ، أَوْ أُخْتُهُ لَهُ جَارِيَتَهَا فَلْيُصِبْهَا وَهِيَ لَهَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ طَاوُسَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَحَلُّ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِنْ وَلَدَتْ فَوَلَدُهَا لِلَّذِي أُحِلَّتْ لَهُ، وَهِيَ لِسَيِّدِهَا الأَوَّلَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَطَاءٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ يَفْعَلُ، يُحِلُّ الرَّجَلُ وَلِيدَتَهُ لِغُلَامِهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ وَأَبِيهِ، وَالْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ يُرْسِلُ وَلِيدَتَهُ إِلَى ضَيْفِهِ.
وَلَعَلَّ الرِّوَايَةَ السَّابِقَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَالآيَةُ ظَاهِرَةٌ في رَدِّهِ لِأَنَّ المُعَارَةَ لِلْجِمَاعِ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا مَمْلُوكَةٍ، وَمثلُها قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ النِّسَاءِ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لَّا تَعْدِلُواْ فواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآيَةَ: 3. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} الآيةَ: 25، مِنْ سُورةِ النِّسَاءِ، فإِنَّهُ لَوْ جَازَتِ العَارِيَةُ لَمَا كَانَ خَوْفُ العَنَتِ، والحَاجَةُ إِلَى نِكَاحِ الإِمَاءِ، وَلا إِلَى الصَّبْرِ عَلَى تَرْكِ نِكَاحِهِنَّ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ في الآيةِ: 33، مِنْ سُورَةِ النَّورِ: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ}، فَإِنَّهُ لَوْ كانَتِ العَارِيَةُ جَائِزَةً لَمْ يُؤْمَرِ الَّذينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا بِالِاسْتِعْفافِ.
وَكَذَا اخْتُلِفَ فِي المُتْعَةِ، فَذَهَبَتِ الشِّيعَةُ أَيْضًا إِلَى جَوَازِهَا، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الآياتِ الظَّاهِرَةِ فِي تَحْرِيمِ العَارِيَةِ. وَبِمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو داوُدَ في نَاسِخِهِ عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ المُتْعَةِ فَقَالَ: هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَتَلَا: {والذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظونَ} الآيةَ: 5، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ، وما أخْرَجَهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ السَّيِّةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا وأَرضاها. وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَوَجْهَ دَلَالَةِ الآيَةِ عَلى ذَلِكَ، أَنَّ المُسْتَمْتَعَ بِهَا لَيْسَتْ مُلْكَ اليَمِينِ وَلَا زَوْجَةً لهُ، فَوَجَبَ أَن لَّا تَحِلَّ لَهُ.
أَمَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ مُلْكَ اليَمينِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا أَنَّها لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ فَلِأَنَّهُما لَا يَتَوَارَثَانِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَحَصَلَ التَّوَارُثُ، لِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} سورةُ النِّساءِ، الآيَةُ: 12.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ المُتْعَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَفِي صِحيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ، حَرَّمَهُ يَوْمَ الفَتْحِ. بقولِهِ: ((كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ ـ تَعَالَى، ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". أَيْ أَنَّهُ حُرِّمَ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً يَوْمُ خَيْبَرَ، وَمَرَّةً يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَخْرَجَ الحَازِمِيُّ في الناسِخِ والمنسوخِ بِسَنَدِهِ إِلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأنْصاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى إذَا كُنَّا عِنْدَ الْعَقَبَةِ مِمَّا يَلِي الشَّامَ، جَاءَتْ نِسْوَةٌ، فَذَكَرْنَا تَمَتُّعَنَا، وَهُنَّ تَطُفْنَ فِي رِحَالِنَا، فَجَاءَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِنَّ، وَقَالَ: ((مَنْ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةُ))؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نِسْوَةٌ تَمَتَّعْنَا مِنْهُنَّ، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ، وَقَامَ فِينَا خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ، فَتَوَادَعْنَا يَوْمَئِذٍ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَلَمْ نَعُدْ، وَلَا نَعُودُ لَهَا أَبَدًا، فَبِهَا سُمِّيَتْ يَوْمَئِذٍ: ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ} نَصْبُ الرَّايَةِ فِي تَخْريجِ أَحَادِيثِ الهِدَايَةِ للزَّيْلَعيِّ: (6/39). وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ إيَاسِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ وكَرَّمَ وجهَهُ، قَالَ: {نَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ الْمُتْعَةِ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَتْ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَلَمَّا أُنْزِلَ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعِدَّةُ، وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ نُسِخَتْ}؛ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. وأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُم، قَامَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا أَعْمَى اللهُ قُلُوبَهُمْ، كَمَا أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، يُفْتُونَ بِالْمُتْعَةِ ـ يَعْرِضُ بِرَجُلٍ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَجِلْفٌ جَافٌّ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَتْ الْمُتْعَةُ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ إِمَامِ الْمُتَّقِينَ يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَجَرِّبْ بِنَفْسِكَ، فَوَاَللهِ لَئِنْ فَعَلْتَهَا لَأَرْجُمَنَّك بِأَحْجَارِكَ.
وَروى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: إنَّمَا كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ، فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يُقِيمُ، فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ، وَتُصْلِحُ لَهُ شَيْئَهُ، حَتَّى إذَا نَزَلَتْ الْآيَةُ: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَاهُمَا حَرَامٌ.
وَالإِشَارَةُ بِـ "ذَلِكَ" إِلَى الأَزْوَاجِ وَالإِمَاءِ. فإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى كُلِّ مَذْكُورٍ مُذَكَّرًا كانَ أَوْ مُؤَنَّثًا.
وَعَلَيْهِ فَيَكونُ المَعْنَى: فَمَنْ طَلَبَ شَيْئًا في العَلَاقَةِ بَيْنَ المَرْأَةِ والرَجُلِ سِوَى الذي بَيَّنَهُ اللهُ فيما تقدَّمِ في الآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، يَكونَ مُتَعَدِّيًا عَلى حُدُودِ اللهِ مُتَجَاوِزًا لَهَا، باغيًا عَلَى غَيْرِهِ، ظَالِمًا لِنَفْسِهِ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ، ط/ العلميّة: (5/404): وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ، وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ}، قَالَ: فَهَذَا الصَّنِيعُ خَارِجٌ عَنْ هَذَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَقَدْ قال اللهُ ـ تَعالى: "فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ"، وَقَدِ اسْتَأْنَسُوا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ فِي جُزْئِهِ الْمَشْهُورِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الجَزَرِيُّ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ حَسَّانَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((سَبْعَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ مَعَ العالمين، وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ أَوَّلَ الدَّاخِلِينَ، إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا، وَمَنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ: النَّاكِحُ يَدِهِ، وَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالضَّارِبُ وَالِدَيْهِ حَتَّى يَسْتَغِيثَا، وَالْمُؤْذِي جِيرَانَهُ حَتَّى يَلْعَنُوهُ، وَالنَّاكِحُ حَلِيلَةَ جَارِهِ)). وقال: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ لِجَهَالَتِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} الفاءُ: هِيَ الفَصِيحَةُ، أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ، والتَقْديرُ: إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فِي ذَلِكَ، وَأَرَدْتَ بَيَانَ حُكْمِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَأَقُولُ لَكَ .. . وَ "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جَازِمٌ، مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَوَابِ أَوْ هُمَا معًا. و "ابْتَغَى" فِعْلٌ مَاضٍ، مبْنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لتَعَذُّر ظهورِهِ على الأَلِفِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مَنْ". و "وَرَاءَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرفيَّةِ الاعتبارِيَّةَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ صِفَةٍ لِمَفْعُولِ "ابْتَغَى" المَحْذُوفِ، والتقديرُ: فَمَنِ ابْتَغَى شَيْئًا، كائِنًا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُضَافٌ، وَ "ذَلِكَ" ذا: اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، واللامُ للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. والجُمْلَةُ في محلِّ الرَّفعِ خبرُ المُبْتَدَأِ، وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولٌ لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ مُعْتَرِضِةٌ لِاعْتِرَاضِهَا بَيْنَ المَعْطُوفِ وَالمَعْطوفِ عَلَيْهِ، وفي الحالَيْنِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.
قوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ وُجُوبًا. و "أولئك" اسمُ إِشارةٍ مبنيٌّ على الكسْرِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. والكافُ للخطابِ. و "هُمْ" ضَمِيرُ فَصْلٍ للتأْكيدِ. و "الْعَادُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ، مرفوعٌ، وعلامةُ رَفْعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا لَهَا.