وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ
(12)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} شروعٌ في بَيَانِ مَبْدَأِ خَلْقِ الإِنْسَانِ وَتَقَلُّبِهِ فِي أَطْوَارِ الخِلْقَةِ وَأَدْوَارِ الفِطْرَةِ. فَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: المَقْصُودُ بالْإِنْسَانُ هُنَا هُوَ أَبُونَا آدَمُ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُذْكَرْ فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ، لِشُهْرَةِ الْأَمْرِ فإِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتُلَّ مِنَ الطِّينِ. فَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ" قَالَ بَدْءُ آدَمَ، خُلِقَ مِنْ طِينٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: اسْتُلَّ آدَمُ مِنْ طِينٍ، وَخُلِقَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. وَمَذْهَبُ سلمانَ الفارسيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ "مِنْ سُلَالَةٍ" لِأَنَّهُ اسْتُلَّ مِنْ كُلِّ الأَرْضِ.
وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وَغَيْرُهُ: السُّلَالَةُ صَفْوَةُ الْمَاءِ، يَعْنِي الْمَنِيَّ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "مِنْ سُلَالَةٍ" قَالَ: السَّلَالَةُ صَفْوُ المَاءِ الرَّقِيقِ الَّذِي يَكونُ مِنْهُ الْوَلَدُ. وَيَعْنِي بِهِ المَنِيَ. وذَكَرَ الإمامُ ابْنُ الجَوزيِّ في تَفْسِيرِهِ: (زادُ المَسِيرِ): (4/405)، وذكَرَهُ أَيْضًا ابْنُ عَطِيَّةَ في تَفْسِيرِه (المُحرَّرُ الوجيزُ في تفسيرِ الكتابِ العزيز): (4/137)، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ" مَنِيِ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ،
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَالَ: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ": هُوَ الطِّينُ إِذَا قَبَضْتَ عَلَيْهِ خَرَجَ مَاؤُهُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِكَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "مِنْ سُلَالَةٍ" قَالَ: مِنْ مَنِيِ آدَمَ.
وَهَذَا دليلٌ على أَنَّ آدَمَ طِينٌ، وَذُرِّيَّتَهُ مِنْ سُلَالَةٍ، وَمَا يَكُونُ عَنِ الشَّيْءِ فَهُوَ سُلَالَتُهُ، وَتَخْتَلِفُ وُجوهُ ذَلِكَ الكَوْنِ فَمِنْهُ قَوْلُهُمْ للخَمْرِ: "سُلَالَة" لِأَنَّهَا سَلَالَةُ العِنَبِ.
وَعَليْهِ فَالْمُرَادُ بِالسُّلَالَةِ ابْنُ آدَمَ، فَالنُّطْفَةُ سُلَالَةٌ، وَالْوَلَدُ سَلِيلٌ وَسُلَالَةٌ، وعَنَى بِهِ الْمَاءَ يُسَلُّ مِنَ الظَّهْرِ سَلًّا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيِّدٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ" قَالَ: اسْتُلَّ اسْتِلَالًا.
و "سُلالَةٍ" بوَزْنِ "فُعَالَةٍ" مِنْ سَلَّ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ إِذا اسْتَخْرَجَهُ مِنْهُ، وَهُوَ بِنَاءٌ يَدُلُّ عَلَى القِلَّةِ كَالقُلَامَةِ والذُّبالةِ والنُّحاتَةِ والنُّخالَةِ. ومِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ ذِي الرُّمَّةِ، (مِنَ الطَّويلِ):
إِذَا أُنْتِجَتْ مِنْهَا الْمَهَارَى تَشَابَهَتْ ..... عَلَى الْقَوْدِ إِلَّا بِالْأُنُوفِ سَلَائِلُهْ
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ:
طَوَتْ أَحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لوَقْتٍ، ................. عَلَى مَشَجٍ، سُلالتُه مَهِينُ
وَمِنْهُ قَوْلُهم في ذَلِكَ: فُلَانٌ سُلالَةُ أَبِيهِ، فَكَأَنَّهُ انْسَلَّ مِنْ ظَهْرِهِ انْسِلالَا، قالَ حَسَّانُ بْنُ ثابتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ:
فجاءَتْ بِهِ عَضْبَ الأَديمِ غَضَنْفَرًا ........ سُلالَةَ فَرْجٍ كانَ غَيْرَ حَصِيْنِ
ومنهُ قَولَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبي الصَّلْتِ:
خَلَقَ البَرِيَّةَ مِنْ سُلالةِ مُنْتِنٍ .................. وَإِلَى السُّلالَةِ كُلُّنا سَنَعُودُ
وَمِنْهُ قوْلُ هِنْدِ ابْنَةِ النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ الأَنْصَاريِّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ بَنَى بِهَا الحَجَّاجُ بْنُ يوسُفٍ الثَّقفيُّ أَمِيرُ العِرَاقِ، عَلَى مُهْرٍ مُعَجَّلُهُ مئةُ أَلْفِ دينارٍ، ومُؤَجَّلُهُ مثلُها، وَكَانَتْ معدودةً مِنْ جَمِيلاتِ العَرَبِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، وَرَأَتْ دَمَامَتَهُ وَقُبْحَهُ، فأَنْشَدَتْ ذاتَ وهي واقفةٌ أَمَامَ المِرآتِ تتأمَّلُ جمالَها:
وَما هِنْدُ إِلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ ..................... سُلَالَةَ أَفْرَاسٍ تَجَلَّلَهَا نَغْلُ
فإنْ نُتِجَتْ مُهْرًا فَللهِ دَرُّها ............ وإِن يَكُ إِقْرَافٌ فَجَاءَ بِهِ الفَحْلُ
فَسَمِعَهَا الحَجَّاجُ فَأَرْسلَ أحَدَ أَصحابهِ بِمُؤَجَّل مَهَرِهَا وقالَ لهُ: طَلَّقْهَا بكلِمَتَيْنِ ولا تَزِدْ، فَأَعْطَاهَا المِئَةَ ألفٍ وقالَ لَهَا: إِنَّ الحجَّاجَ يقولُ لك" (كُنْتِ فَبِنْتِ)، فوهبتُهُ المِئَةَ أَلْفِ دينارٍ بشارةً لَهُ لشدَّةِ فرحها بالخلاصِ مِنَ الحجَّاجِ.
وَوصِفَتْ للخَلِيفَةِ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، فَأُعْجِبَ بِهَا وبِأَدَبِها وَأَرسَلَ يَخْطِبُهَا لِنَفْسِهِ، فَكَتَبَتْ تَقُولُ لَهُ: اعْلَمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَنَّ الإِنَاءَ قَدْ وَلَغَ فيهِ الكَلْبُ، فَضَحِكَ وَأَرْسَلَ لَهَا اغْسِلِيهِ سَبْعًا إحْداهُنَّ بالتُّرابِ يطهُرُ. فَاشْتَرَطَتْ عليْهِ أَنْ يَقُودَ مَحْمَلَهَا إِلَيْهِ الحَجَّاجُ بِنَفْسِهِ مِنَ بَيْتِهَا في مَعَرَّةِ النُّعْمانِ إِلَى حَيْثُ هُوَ، وَفِي الطَّريقِ رَمَتْ بِدِينَارٍ إِلَى الأَرْضِ، وَقَالَتْ للحَجَّاجِ لَقَدْ سَقَطَ مِنِّي فلسٌ فَنَاوِلْنِيهُ، فَلَمَّا الْتَقَطَهُ وَجَدَهُ دِينَارًا، قَالَ: هوَ دِينَارٌ يا سَيِّدَتي، فَقَالَتْ: الحَمْدُ للهِ الَّذي أَبَدْلَنا فِلْسَنا بِدينارٍ، فكَتَمَهَا الحَجَّاجُ فِي نَفْسِهِ.
وَجاءَ في بَعْضِ الرِّواياتِ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَا عَلَى الخَلِيفَةِ، كانتْ في يَدِه وردةٌ، فشمَّها وأَعْطَاهَا للحَجَّاجِ، فَقَالَ الحَجَّاجُ اعْذُرْني يا مَوْلايَ، أَنَا لَا أَشُمُّ وَرْدَةً شَمَّهَا غَيْرِي. فَغَضِبَ عَبْدُ المَلِكِ وَقالَ لَهُ: قَبَّحَكَ اللهُ: ارْجِعْ بِهَا مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ، واسْتَنْكَفَ عَنِ الزَّواجِ بِهِنْدٍ. فأَفْسَدَ عَلَيْهَا الحَجَّاجُ زَوَاجَهَا مِنْ الخَلِيفَةِ، وثَأَرَ لِنَفْسِهِ.
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} وَلَقَدْ: الوَاوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَاللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ للْقَسَمِ، وَ "قَدْ" للتَّحْقِيقِ، و "خَلَقْنَا" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "الْإِنْسَانَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍّ للابتِداءِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَلَقْنَا"، وَيَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنَ "الإِنْسانَ". وَ "سُلَالَةٍ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجَرِّ. وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ لِابْتِداءِ الغايَةِ. وَقِيلَ: هيَ لِبَيانِ الجِنْسِ. فإِنَّ "مِنْ" الأُوْلى للابْتِدَاءِ، وَهَذِهِ للْبَيَانِ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الحَجِّ: {فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ} الآيةَ: 30. قَالَ أَبُو حيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ في تفْسِيرِهِ: (البحْرُ المحيطُ): وَلَا تَكُونُ لِلْبَيَانِ؛ إِلَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ السُّلالَةَ هِيَ الطِّينُ. أَمَّا إِذَا قُلْنا: إِنَّهُ مِنْ "أُنْسِلَ مِنَ الطِّينِ فَـ "مِنْ" لِابْتِداءِ الغَايَةِ. وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ صِفَةٍ لِـ "سُلَالَةٍ"، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِـ "سُلَالَةٍ" نفسَها لِأَنَّهَا بِمَعْنَى مُسْلُولَةٍ، وقيلَ: تَتَعَلَّقُ بِـ "خَلَقْنا" لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الأُولَى، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ السُّلَالَةَ هِيَ نَفْسُ الطِّينِ. وَ "طِينٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ جَوَابٌ للقَسَمِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ أَيْضًا.
وَقَالَ الزَّمَخشَريُّ: هَذِهِ الجُمْلَةُ جَوَابٌ للقَسَمِ المَحْذُوفِ. أَيْ: وَالله لَقَدْ خَلَقْنا. وَعُطِفَتْ عَلَى الجُمْلَةِ قَبْلَهَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ المُنَاسَبَةِ؛ وَهُوَ أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ المُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الأَوْصَافِ يَرِثونَ الفِرْدَوْسَ، فَتَضَمَّنَ ذِكْرَ المَعَادِ في الآخِرَةِ، ذَكَرَ النَّشْأَةَ الأُولَى لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلى المَعَادِ، فَإِنَّ الابْتِداءَ في عادَةً أَصْعَبُ مِنَ الإِعَادَةِ كَقَوْلِهِ في الآيةِ: 27، مِنْ سُورَةِ الرُّومِ: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}. وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قولِ ابْنِ عَطِيَّةَ: هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، وَالواوُ فِي أَوَّلِهِ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةِ كَلَامٍ، وَإِنْ تَبَايَنَتَا فِي المَعْنَى.