[size=48]فَيْضُ[/size][size=48] [/size][size=48]العَليمِ[/size][size=48] [/size][size=48]مِنْ[/size][size=48] [/size][size=48]مَعاني[/size][size=48] [/size][size=48]الذِّكْرِ[/size][size=48] [/size][size=48]الحَكيمِ[/size]
[size=32]تفسير[/size][size=32] [/size][size=32]ـ[/size][size=32] [/size][size=32]أسباب[/size][size=32] [/size][size=32]نزول[/size][size=32] [/size][size=32]ـ[/size][size=32] [/size][size=32]أحكام[/size][size=32] [/size][size=32]ـ[/size][size=32] [/size][size=32]إعراب[/size][size=32] [/size][size=32]ـ[/size][size=32] [/size][size=32]تحليل[/size][size=32] [/size][size=32]لغة[/size][size=32] [/size][size=32]ـ[/size][size=32] [/size][size=32]قراءات[/size]
[size=37]اختيار[/size][size=37] [/size][size=37]وتأليف[/size][size=37]:[/size]
[size=48]الشاعر[/size][size=48] [/size][size=48]عبد[/size][size=48] [/size][size=48]القادر[/size][size=48] [/size][size=48]الأسود[/size]
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
[size=37]سُورَةُ[/size] المؤمنونَ
(23)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
(1)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} تَأْكِيدٌ مِنَ اللهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، لِنَجَاحِ المُؤْمِنِينَ بِاللهِ ـ تَعَالَى، وبَقَائِهم فِي الخَيْرِ العَمِيمِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَفَوْزِهِمْ بِرِضاهُ وَجَنَّتِهِ وَنَعِيمِهَا في حَيَاتِهِمُ الأُخْرى، فَإِنَّ الْفَلَاحَ هُوَ غَايَةُ كُلِّ سَاعٍ إِلَى عَمَلٍ مَّا، وَهُوَ افْتِتَاحٌ بَدِيعٌ لِهَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ، لِأَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ.
فَقد أَخْبَرَ ـ تَعَالَى، بِفَلَاحِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ ذِكْرِ مُتَعَلِّقٍ بِفِعْلِ الْفَلَاحِ يَقْتَضِي تَعْمِيمَ مَا بِهِ الْفَلَاحُ الْمَطْلُوبُ، فِي هَذا الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ، فَكَأَنَّما قِيلَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ مَا رَغِبُوا الفَلَاحَ فِيهِ.
وَقدْ وَرَدَ في فَلَاحِ الْمُؤْمِنِينَ آيَاتٌ كَثِيَرةٌ مِنَ القُرْآنِ الكَريمِ، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، في الآية: 47، مِنْ سُورةِ الأَحْزَابِ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيرًا}. كما وردَتْ في ذلكَ أحاديثُ كثيرةٌ مِنْهَا ما أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي (الْأَدَبُ الْمُفْرَدُ)، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو عبدِ اللهِ الْحَاكِمُ النَّيْسابورِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبوَّةِ، عَنْ يَزِيدِ بْنِ بَابَنُوسَ البَصْرِيِّ، قَالَ: قُلْنَا لِعَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهَا وأَرْضَاهَا: كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. ثُمَّ قَالَتْ ـ رَضِيَ اللهُ عنْها: تَقْرَأُ سُورَةَ (الْمُؤْمِنُونَ): "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ" فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ الْعَشْرَ فَقَالَتْ: هَكَذَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ ـ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَن أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَلَقَ اللهُ جَنَّةَ عَدْنٍ، وَغَرَسَ أَشْجَارَهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ". وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي السُّنَّةِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عنهُما، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ"، قَالَ: قَالَ كَعْبٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: لَمْ يَخْلُقِ اللهُ بِيَدِهِ إِلَّا ثَلَاثَةً: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، والتَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: تَكَلَّمِي. فَقَالَتْ: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ"، لِمَا عَلِمْتَ فِيهَا مِنَ الْكَرَامَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: لَمَّا غَرَسَ اللهُ الْجَنَّةَ، نَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، عَنْ أَبي الْعَالِيَةِ الرّياحِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْجَنَّةَ، قَالَ: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ"، وَأَنْزَلَ اللهُ بِهِ قُرْآنًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ"، قالَ: يَعْنِي: سَعِدَ المُصَدِّقونَ بِتَوْحِيدِ اللهِ.
وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ فِي مَسَائِلِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ ـ تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ" قَالَ: فَازُوا وَسَعِدُوا. قَالَ: وَهلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ قَالَ: نَعَم، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ لَبِيدٍ:
فاعْقِلي إِنْ كُنْتِ لَمْ تَعْقِلِي .................... إِنَّما أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ
فَيَجُوزُ إِذًا أَنْ يَكونَ المَعْنَى: قَدْ سَعِدَ المُؤْمِنُونُ، وَعَلَيْهِ قَولُ الشَّاعِرِ المُخَضْرَمِ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ المُتَقَّدِمُ
وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ بِمَعْنَى البَقَاءِ، أَيْ: قَدْ بَقِيَتْ لَهُمْ أَعْمَالُهُمْ، أَوْ أَنَّ المُردَ بَقاؤُهم فِي الجَنَّةِ، كما يَقولُ المُؤَذِّنُ في الأَذَانِ: "حَيْ عَلَى الفَلاحِ" أَيْ هلُمُّوا إِلى خَيْرٍ باقٍ لكمْ لا يُمْحى ولا يَفْنَى، وَمِنْهُ قوْلُ الشَّاعِرِ الجاهِلِيِّ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ:
أَفَبَعْدَنَا أَوْ بَعْدَهُمْ ............................... يُرْجَى لِغَابِرِنَا الفَلَاحُ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ بِمَعْنِى الفَوْزِ بالمَرَامِ، وإِدْرَاكِ المَطْلوبِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعةَ العامِرِيِّ:
لَوْ أَنَّ حَيَّا مُدْرِكُ الفَلاَحِ ........................ أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ
وأخرجَ الطَّبَرِيُّ وابْنُ أَبي حاتِمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنِ سَعيدِ بْنِ جُبيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: "الْمُفْلِحُونَ": أَيِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوا، وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا مِنْهُ هَرَبُوا".
وَهُمْ أَصْحابُ سيِّدِنا مَحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثَمَّ يُعَمَّمُ حَتَّى يَشْمَلَ كُلَّ مُؤْمِنٍ باللهِ ـ تَعَالَى، اتَّصَفَ بالصِّفاتِ العشْرِ المَذْكورةِ، والَّتي سَنَأْتي على ذِكْرِهَا تِباعًا ـ إِنْ شاءَ اللهُ ـ تَعَالَى.
فَـ "أَفْلَحَ" مِنَ الفَلَحِ وَالْفَلاحِ، الَّذي هُوَ الفَوْزُ بالخَيْرِ والنِّعَمُ والنَّعيمِ، وَالسَّعَةِ وَلِينِ العَيْشِ، وَهُوَ أَيْضًا النَّجَاةُ، وَالْبَقَاءُ، ومِنْهُ قَولُ الشَّاعِرِ الأَعْشَى التَّمِيمِيِّ:
وَلَئِنْ كُنَّا كَقَوْمٍ هَلَكُوا ........................ مَا لِحَيٍّ يَا لَقَومٍ مِنْ فَلَحْ
أَيْ: مَا لِحَيٍّ مِنْ بقاءٍ. وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
ثُمَّ بَعْدَ الفَلاَحِ والرُّشْدِ وَالْإِ .................... مَّةِ وَارَتْهُم هُنَاكَ القُبورُ
أَيْ: مِنْ بَعْدِ البَقَاءِ، والإِمَّةُ: هِيَ الدِّينُ وَالطَّريقَةُ. وَقَالَ الأَضْبَطُ بْنُ قُرَيعٍ السَّعْدِيُّ:
لكلِّ هَمٍّ مِنَ الهُمُومِ سَعَهْ ............... والمُسْيُ والصُّبْحُ لَا فَلاَحَ مَعَهْ
أَيْ: لَا بَقاءَ مَعْهُ. وَالْفَلَاحُ أَيْضًا: السُّحورُ، وَهُوَ الْأَكْلُ فِي وَقْتِ السَّحَرِ، فَقَدْ جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ: ((حَتَّى خِفْنَا أَنْ يَفُوتَنَا الفَلَاحُ)). وَهَذِهِ الجُملةُ جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ طويلٍ أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَمَضَانَ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ، حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ قَامَ بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كَادَ أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِيهَا، لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، قَامَ بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كَادَ أَنْ يَذْهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ، قَالَ لَا، إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ، فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِيهَا، لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا أَنْ كَانَتْ لَيْلَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، جَمَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَهْلَهُ، وَاجْتَمَعَ لَهُ النَّاسُ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كَادَ يَفُوتُنَا الْفَلَاحُ، قَالَ: قُلْتُ وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ السُّحُورُ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا يَا ابْنَ أَخِي شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ). مُسْنَدُ الإمامِ أَحْمَد: (برقم: 21447). وصَحيحُ أَبي دَاودَ: (برقم: 1245)، وابْنُ مَاجَهْ: (برقم: 1327)، والتِّرْمِذِيِّ: (برقم: 817)، والسُنَنُ الكُبْرى للنِّسائي: (برقم: 1289) و (1300)، وَصَحيحُ ابْنِ حِبَّانَ: (برقم: 2547).
وَفِلاحَةُ الأَرْضِ: حِراثَتُها، وشَقُّها، ومِنْهُ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الحَديدَ بِالحَديدِ يُفْلَحُ، أَيْ: يُشَقُّ وَيُقْطَعُ. وَالأَفْلَحُ: هوَ مَنْ كانتْ شَفَتُهُ السُفْلَى مَشْقُوقَةً. والفُلوحُ: الشُّقوقُ.
قولُهُ تَعَالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} قَدْ: حَرْفُ تَحْقِيقٍ. وَهيَ هُنَا للتَّوَقُّعِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ: نَقِيضَةُ "لَمَّا"، فَهِيَ تُثْبِتُ المُتَوَقَّعَ، وَ "لَمَّا" تَنْفِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ المُؤْمِنِينَ كانُوا مُتَوَقِّعينَ لِهَذِهِ البِشَارَةِ، وَهِيَ لِلْإِخْبَارِ بِثَبَاتِ الفَلَاحِ لَهُمْ، فَخُوطِبُوا بِمَا دَلَّ عَلَى ثَبَاتِ مَا تَوَقَّعُوهُ. وَ "أَفْلَحَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ. و "الْمُؤْمِنُونَ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رَفْعِهِ الواوُ لِأَنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنَّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قرأَ العامَّةُ: {قَدْ أَفْلَحَ} مَفْتُوحَةَ الهَمْزَةِ وَالحَاءِ، فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا للفَاعِلِ. وقَرَأَ وَرْشٌ "قَدَ افْلَحَ" عَلَى قَاعِدَتِهِ مِنْ نَقْلِ حَرَكَةِ الهَمْزَةِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا وَحَذْفِهَا. ورويَ خُلْفٌ عَنْ حَمْزَةَ فِي "الوَقْفِ"، فَقد رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ كَمَا قَرَأَ العَامَّةُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قرَأَ كَمَا قَرَأَ وَرْشٌ.
وَقَالَ العُكْبُرِيُّ: مَنْ أَلْقَى حَرَكَةَ الهَمْزَةِ عَلَى الدَّالِ وَحَذَفَهَا فَعِلَّتُهُ: أَنَّ الهَمْزَةَ بَعْدَ حَذْفِ حَرَكَتِهَا صُيِّرَتْ أَلِفًا، ثُمَّ حُذِفَتْ لِسُكُونِهَا وَسُكونِ الدَّالِ قَبْلَهَا فِي الأَصْلِ. وَلَا يُعْتَدُّ بِحَرَكَةِ الدَّالِ لِأَنَّهَا عَارِضَةٌ.
قالَ السَّمِينُ الحَلَبِيُّ: وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللُّغَةَ الفَصِيحَةَ فِي النَّقْلِ حَذْفُ الهَمْزَةِ مِنَ الأَصْلِ، فَيَقُولُونَ: المَرَةُ، في المَرْأَةِ، وَالكَمَةُ في الكَمْأَةِ. واللُّغَةُ الضَّعِيفَةُ فِيهِ إِبْقاؤُهَا وَتَدْيِيرُهَا بِحَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا، فَيَقُولَونَ: المَرَاةُ وَالكَمَاةُ ـ بِمَدَّةٍ بَدَلَ الهَمْزَةِ ك "رَاسٍ" في رأْسٍ، وَ "فَاس" في "رأْسٍ" فِيمَنْ خَفَّفَهُمَا. فَقَوْلُهُ: "صُيِّرَتْ أَلِفًاً" ارْتِكابٌ لِأَضْعَفِ اللُّغَتَيْنِ. والثاني: أَنَّهُ ـ وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهَا صُيِّرَتْ أَلِفًا، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَذْفَهَا لِسُكُونِهَا، وَسُكونِ الدَّالِ فِي الأَصْلِ، بَلْ حَذْفُهَا لِسَاكِنٍ مُحَقَّقٌ في اللَّفْظِ، وَهُوَ الفَاءُ مِنْ "أَفْلَحَ"، وَمَتَى وُجِدَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ، أُحيلَ الحُكْمُ عَلَيْهِ دُونَ السَّبَبِ المُقَدَّرِ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: "أُفْلِحَ" مَبْنِيًّا لِلْمَفعُولِ، أَيْ: دَخَلُوا فِي الفَلَاحِ. وعليْهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ "أَفْلَحَ" مُتَعَدِّيًا. حيثُ يُقالُ: أَفْلَحَهُ إِذا أَصَارَهُ إِلَى الفَلَاحِ، فَيَكُون الفِعلُ "أَفْلَحَ" مُسْتَعْمَلًا لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ ـ أَيْضًا: "أَفْلَحُ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَاللَّامِ بَعْدَهَا، وَضَمِّ الحاءِ. فقَد أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرَّفٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ"، بِرَفْعِ أَفْلَحَ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِنَصْبِ "أَفْلَحَ".
وَتَخْريجُ قراءةِ طَلْحَةَ عَلَى أَنَّ الأَصْلَ "أَفْلَحُوا المُؤْمِنُونَ" بِلَحَاقِ عَلَامَةِ جَمْعٍ قَبْلَ الفاعِلِ، كَلُغَةِ "أَكَلُوني البَرَاغِيثُ".
قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ يَقْرَأُهَا. فَقُلْتُ لَهُ: أَتَلْحَنُ؟ قَالَ: نَعَم، كَمَا لَحَنَ أَصْحَابِي. يَعْنِي اتَّبَعْتُهم فِيمَا قَرَأْتُ بِهِ، فَإِنْ لَحَنُوا ـ عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ المُحَالِ، فَأَنَا لَاحِنٌ تَبَعًا لَّهُمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدِّةِ اعْتِنَاءِ القُدَماءِ بِالنَّقْلِ، وَضَبْطِهِ خِلَافًا لِمَنْ يُغَلِّطُ الرُّوَاةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِراءَةٌ مَرْدُودَةٌ. قالَ السَّمينُ: وَلَا أَدْرِي كَيْفَ يَرُدُّونَهَا مَعَ ثُبُوتِ مِثْلِها فِي القُرْآنِ بِإِجْمَاعٍ، وَهُمَا الآيَتَانِ المُتَقَدِّمَتَانِ؟، ويعني بذلكَ الآيَةَ: 71، مِنْ سورةِ المائدَةِ، وهي قَوْلُهُ ـ تَعَالَى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ}، والآيةَ: 3، مِنْ سُورةِ الأَنبِيَاءِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذينَ ظَلَمُواْ}.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَنْهُ ـ أَيْ: وَعَنْ طَلْحَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: "أَفْلَحُ" ـ بِضَمَّةٍ بِغَيْرِ وَاوٍ، وذلكَ اجْتِزَاءً بِهَا عَنْهَا، كَقَوْلِهِ:
فلَوْ أَنَّ الأَطِبَّا كانُ حَوْلي ..................... وَكَانَ مَعَ الأَطِبَّاءِ الأُسَاةُ
قَالَ السَّمينُ: وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الوَاوَ لَا تَثْبُتُ فِي مِثْلِ هَذَا دَرْجًا لِئَلَّا يَلْتَقِي سَاكِنَانِ، فَالحَذْفُ هُنَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَقُولُ اجْتِزَاءً عَنْهَا بِهَا؟!. وَأَمَّا تَنْظِيرُهُ بِالْبَيْتِ فَلَيْسَ بِمُطَابِقٍ؛ لِأَنَّ حَذْفَها مِنَ الآيَةِ ضَرُورِيٌّ، وَمِنَ البَيْتِ ضَرُورةٌ. وَهَذِهِ الوَاوُ لَا يَظْهَرُ لَفْظُهَا فِي الدَّرْجِ، بَلْ يَظْهَرُ فِي الوَقْفِ وَفِي الخَطِّ.
وَالبَيْتٍ مِنْ بَيْتَيْنِ مِنَ الوَافِرِ لَمْ يُعْرِفْ قَائِلُهُمَا، وَهُمَا:
فَلَوْ أَنَّ الأَطِبَا كَانُ حَوْالِي ..................... وَكَانَ مَعَ الأَطِبَّاءِ الأُسَاةُ
إِذًا مَا أَذْهَبُوا أَلَمًا بِقَلْبِي .................. وَإِنْ قِيلَ: الأُسَاةُ هُمُ الشُّفَاةُ
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقَلَةُ لِقِرَاءَةِ طَلْحَةَ: هَلْ يُثَبِتُ لِلْوَاوِ صُوَرَةً؟ فَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ مَكْتُوبٌ بِوَاوٍ بَعْدَ الحاءِ، وَفِي "اللَّوَامِحِ".
وَقَدْ حُذِفَتِ الوَاوُ بَعْدَ الحَاءِ لِالْتِقَائِهِمَا فِي الدَّرْجِ، وَكَانَتِ الكِتَابَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الوَصْلِ نَحْوَ قولِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ الشُّورى: {وَيَمْحُ اللهُ البَاطِلَ} الآية: 24. وَكذلكَ كُتِبَ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ العَلَقِ: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} الآيةَ: 18، ومِنْ ذلكَ قَوْلُهُ في الآيةِ: 163، مِنْ سُورةِ الصَّافَّاتِ: {صَالِ الْجَحِيم}.