الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية:32
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} أَي أَنَّ اللهَ ـ تعالى أَرْسَلَ إِلَى سدومَ رَجُلًا مِنْهُمْ، نَشَأَ فِيهِمْ وَتَرَبَّى بَيْنَهُم، يَعْرِفُونَ سيرتَهُ وَسُلُوكَهُ وأَخلاقَهُ، وهوَ ما اقتَضِتْهُ حِكْمَةُ اللهِ تَعَالى، حتَّى إِذَا آنَسُوا في هَذا الرَّجُلِ النُّبْلَ وَمَكارِمَ الأَخْلَاقِ، أَرْسَلَهُ اللهُ إليهِمْ، فآمِنَ بِهِ وبِرِسَالَتِهِ المُنْصِفُونَ أَرْبابُ العُقولِ، وكَذَّبَهُ أَرْبَابُ المَصَالِحِ الخَاصَّةِ والأَهْواءِ، فَوَسَمُوهُ بالكَذِبِ والجُنُونِ وَغَيْرِ ذلكَ مِنْ سَيِّءِ الصِّفاتِ الَّتي لَمْ يَرَوْهَا مِنْهُ طِيلَةَ سِنِيِّ عُمْرِهِ الَّتي قَضاهَا بَيْنَهُم، فَكانُوا كَمَنْ يكَذِّبُ نَفْسَهُ لأنَّهُمْ عَاشُوا عُمرًا يَصِفُونَهُ بِسنِيِّ الصِّفاتِ وَمَكارِمِ الأَخْلَاقِ، وَفَجْأَةً انْقَلَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِم، وَغَيَّرُوا رَأْيَهُمْ، وراحوا يَصِفونَهُ بالكَذِبِ والافْتِرَاءِ وَالجَنُونِ وغيرِها مِنَ الصِّفاةِ الشَّنِيَعَةِ، وَذَلِكَ حِينَ بَلَّغَهُمْ رِسَالةَ ربِّهِمْ الَّتي تَدْعُوهمْ إِلَى الإيمانِ بِخَالِقِهِم، وعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، والسَّيْرِ في طَريقِ الحَقِّ والصَّوابِ، ونَبْذِ طَريقِ الباطِلِ وَظُلْمِ الإِنْسَانِ لِأَخِيهِ الإِنْسَان، وَالتَّعَدِّي عَلَى حُرَّيَّتِهِ وَمَصَالِحِهِ وَسَلْبِهِ حُقوقَهُ.
قولُهُ: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ} هوَ مَضمونُ الرِّسالاتِ السَّماويَّةِ كُلِّها، والمِنْهَجُ المُكَرَّرُ فيها جميعًا، فإنَّ الأَسَاسَ الَّذي تقومُ عَلَيْهِ، هُوَ تَوْحيدُ اللهِ ـ تَبَاركَ وتَعَالَى، وعِبادَتُهُ وَحْدَهُ دونَ شَريكٍ، كَمَا قَالَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعالى، في الآيةِ: 13، مِنْ سُورَةِ الشُّورى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَالَّذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسَى وعِيسَى، أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}.
فالدِّينُ وَاحِدٌ نَزَلَ بِهِ جِبْريلُ الأَمِينُ ـ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، عَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسلينَ، ومنهُمْ النَّبِيُّ الخاتمُ نبيُّنا محمَّدٌ ـ عليْهِ وَعَلَيْهِمُ جميعًا أَزَكى الصَّلاةِ وأَكْمَلُ السَّلامُ. وَإِنَّما اخْتَلَفَتِ الشَّرائعُ المُنَزَّلَةُ عَلَى الأُمَمِ باخْتِلَافِ الأَلْسِنَةِ وَالأَزْمِنَةِ والأَمْكِنةِ، كَمَا قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى، الآيةَ: 48، مِنْ سُورَةِ المَائدَةِ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، إِلَى أَنْ جَاءَ النَّبِيُّ الخاتَمُ ـ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، في آخِرِ الزَّمَانِ، فَكانَتْ الشَّريعةُ المُنَزَّلَةُ علَيْهِ هِيَ الصَّالَحَةُ لكُلِّ الأقوامِ، في كُلِّ زَمانٍ ومكانٍ، لأَنَّ ُمَّتَهُ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، آخِرُ الأمَمِ، ورِسالَتَهُ آخِرُ الرِّسالاتِ، وَهُوَ آخِرُ الأَنْبِياءِ والمُرْسَلينَ.
قولُهُ: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} تَعْلِيلٌ لِإِفرادِهِ بالعِبَادَةِ، فمِنَ الطَّبِيعِيِّ المَنْطِقِيِّ أَنْ يكونَ المَعْبُودُ المحبوبُ المُطاعُ، هَوَ الذي بِيَدِهِ وَحْدَهُ جلبُ الخَيْرِ للإنْسانِ، وَدَفعِ الشَّرِ عَنْهُ وسائرِ المَضارِّ، ومَنْ المُبْتَدَّأُ مِنْهُ، والمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِيَدِ غيرِهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
قولُهُ: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} يحُضُّ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ، النَّاسَ على التفكُّرِ والتَّدَبُّرِ، واسْتِعْمالِهِمُ العَقْلَ الَّذي أَنْعمَ اللهُ بِهِ عليهِم، ليتوصَّلوا إلى أَنَّ ما يَأْمُرُهُمْ بِهِ رَبُّهُم هوَ الصَّوابُ، لأنَّهُ هُوَ رَبُّ الأَرْبابِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
قولُهُ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} الفاءُ: عاطفةٌ. و "أَرْسَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانهُ، وَ "نا" التَّعظيمِ هَذِهِ، ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ، فَاعِلُهُ. و "فِيهِمْ" في: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَرْسَلْنَا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في كَشَّافِهِ: فإِنْ قُلْتَ: حَقُّ "أَرْسَلَ" أَنْ يَتَعَدَّى بـ "إِلَى" كَأَخَوَاتِهِ الَّتي هِيَ: "وَجَّهَ" و "أَنْفَذَ" و "بَعَثَ"، فَمَا بَالُهُ عُدِّيَ فِي القُرْآنِ بـ "إِلَى" تَارَةً، وَبـ "في" أُخْرَى، كَقَوْلِهِ {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ} الآيةَ: 30، منْ سورةِ الرعد؟. قُلْتُ: لَمْ يُعَدَّ بـ "فِي" كَمَا عُدِّيَ بـ "إٍلَى" وَلَمْ يَجْعَلْهُ صِلَةً مِثْلَهُ، وَلَكِنَّ الأُمَّةَ أَوْ القَرْيَةَ جُعِلَتْ مَوْضِعًا للإِرْسَالِ كقَوْلِ رُؤْبَةَ: أَرْسَلْتَ فِيهَا مُصْعَبًا ذَا إِقْحَامِ .. .
وَقَدٍ جَاءَ "بَعَثَ" عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا} الآيةَ: 51، مِنْ سورةِ الفُرْقان. وَ "رَسُولًا" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، و "مِنْهُمْ" مِنْ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بصِفَةٍ لِـ "رَسُولًا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {أَنْشَأْنَا} مِنِ الآيَةِ الَّتي قبلَها.
قولُهُ: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ} أَنِ: هيَ المُفَسِّرَةُ؛ لِأَنَّ فِي الإِرْسَالِ مَعْنَى القَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ؛ أَيْ: قُلنا لَهم عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ: اعْبُدُوا اللهَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ مَصْدَرِيَّةً مُؤَوَّلَةً مَعَ مَا بَعْدَهَا بِمَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ، مُتَعَلِّقٍ بِـ "أَرْسَلْنَا"؛ أَيْ: أَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، بِعِبَادَةِ اللهِ ـ تَعَالَى، بِأَنِ اعْبُدُوا. و "اعْبُدُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٍّ على حذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعِةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "مَا" نَافِيَةٌ بمعنَى "لَيْسَ". و "لَكُمْ" اللامُ حَرْفُ جَرٍ مُتعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصَلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ زائدٌ، و "إِلَهٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ الزائدِ لَفْظًا مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ مَحَلًّا على أَنَّهُ مبتَدَأٌ مُؤْخَّرٌ. و "غَيْرُهُ" صِفَةٌ لِـ "إِلَهٌ" بالرَّفْعِ تَبَعًا لِمَحَلِّهِ، وَ "غيرِهِ" بالْجَرَّ تَبَعًا لِلَفْظِهِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ الأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، فلا مَحَلَّ لهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} الهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهَامِ الإِنْكارِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالفاءُ: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذُوفِ، والْجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، وَالتَّقْديرُ: أَتُشْرِكُونَ بِاللهِ فَلَا تَتَّقُونَ عَذَابَهُ؟. و "لَا" نَافِيَةٌ. "تَتَّقُون" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِم، وعلامةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ. وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، ومفعولُهُ محذوفٌ تقديرُهُ: أَفلا تتقونَ عَذابَ اللهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى اسْتِئْنَافٍ مُقَدَّرٍ مُقَرِّرٍ لِمَا قَبْلَهُ، فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.