وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ
(17)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فولِهِ مِنَ الآيةِ: 12، السَّابقةِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}. وَانْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرتِهِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَتَسْخِيرِ كُلِّ مَا حَوْلَهُ في الأرضِ لِمَصْلَحَتِهِ، إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ مِنْ سَمَاوَاتٍ وَمَا فِيهَا، لِأَنَّهَا أَعْجَبُ، وأَمْرَها أَغْرَبُ، وَإِن كَانَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ إِلَى نَظَرِهِ أَقْرَبَ. وَذُكِرَ فَوْقَكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ فِي أَحْوَالِهَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ لَهَا تَعَالَى فَإِنَّهَا بِحَالَةِ إِمْكَانِ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَالتَّأَمُّلِ فِيهَا.
وَكَوْنُهَا فَوْقَ النَّاسِ أَتاحَ لهُمْ النَّظَرَ إِلَيْها للاسْتِدْلالِ والتَّفَكُّرِ والاعْتِبَارِ، كَمَا سَهَّلَ انْتِفَاعَهُمْ بِهَا فِي معرِفةِ الأَزْمِنَةِ والمَوَاقِيتِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقولِهِ: "وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ" مِمَّا يُشْعِرِ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ لُطْفًا بِالْخَلْقِ وَتَيْسِيرًا لِشُؤُونِ حَيَاتِهِمْ عَلَيْهِم، وَتَنْبِيهًا لِلنَّظَرِ فِي أَنَّ عَالَمَ العطاءِ والْجَزَاءِ كَائِنٌ بِتِلْكَ الْعَوَالِمِ، كَمَا قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الذارياتِ: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} الآيةَ: 22.
وَ "سَبْعَ طَرَائقَ" يَعْنِي: سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ" قَالَ: السَّمَوَاتُ السَّبْعُ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ "طَرَائِقَ" بِالتَّطَارُقِ، فإِنَّ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ، مِنْ طارقَ الشَّيْءَ: إِذَا جَعَلَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ. فإِنَّهُم يَقُولُونَ: طارَقَ البعيرُ الناقةَ: إِذَا عَلَاهَا.
وقِيلَ: هيَ جَمْعُ طَرِيقَةٍ، وَالطَّريقةُ اسْمُ طَّرِيقٍ فَتُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَذلكَ لأَنَّهَا طَرَائِقُ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وغيرِهَا أَوْ أَفْلَاكُهَا، قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ يس: {وَكُلٌّ في فلكٍ يَسْبَحُونَ} الآيةَ: 40، أَيِ: يَسِيرُونَ.
وَأَعْظَمُ تِلْكَ الطَّرَائِقِ طَرِيقَةُ الشَّمْسِ مَعَ مَا زَادَتْ بِهِ مِنَ نَفْعِ المخلوقاتِ عَلَى الكُرةِ الأَرْضِيَةِ بِإِنَارَتِها وَإِصْلَاحِ الْأَرْضِ وَالْأَجْسَادِ بِحَرَارَتِهَا، إذْ لولاها لعمَّتِ الأوبئةُ والجراثيمُ والميكروباتُ ولأَصْبَحَتِ الحَياةُ عليها مُسْتَحيلةً. وإذًا فَالْمَعْنَى: خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ لِحِكْمَةٍ لَا تَعْلَمُونَهَا وَمَا أَهْمَلْنَا فِي خَلْقِهَا رِعايَةَ شؤونِكُم والاهتمامَ بمَصَالِحِكِمْ.
والفَلَكَ هوَ الْخُطُّ الْفَرْضِيُّ الَّذي بِهِ يُضْبَطُ سَمْتُ سَيْرِ الْكَوَكَبِ، وَالطَّارقُ هوَ الذي يَطْرُقُ الطَّريقَ أَيْ يَمْشِي فِيهِ، فقَوْلُهُ ـ تَعَالى، مِنْ سُورةِ الطَّارقِ: {وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ} الآيةَ: 1، يَعْنِي الْكَوَكَبَ الذي يَسيرُ فِيهَا لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي سَمْتٍ مَحَدَّدٍ، يُسَمَّى طَريقَةً.
وقالَ بعضُهُمْ: إِنَّما سُمِّيَتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ "طَرَائِقَ" لِأَنَّ المَلَائكَةَ الكرامَ تَطْرُقُها، أَيْ: تَمْشِي وتَطوفُ فِيهَا. وكلُّ هَذِهِ الوُجوهِ واقعيٌّ، والعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ـ تَعَالى.
قولُهُ: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} امْتِنَانٌ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، عَلى عِبادِهِ وجميعِ مَخْلُوقاتِهِ بِأَنَّهُ سَاهِرٌ عَلَى رِعايَتِهمْ، وَتَأْمينِ أَرزاقهِمْ وَمَصَالِحِهُم، فَلَا يَغْفُلُ عَنْهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَيْ: مَا كُنَّا غَافِلِينَ عَنْ حَاجَةِ مَخْلُوقَاتِنَا يَعْنِي الْبَشَرَ في المقامِ الأولِ، وَيَشْمُلُ غَيْرَهُمْ أَيْضًا، فهوَ كقولِهِ مِنْ سُورةِ هُودٍ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} الآيةَ: 6. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الجملةِ الكريمةِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَوَلُهَا: مَا غَفِلْنَا عَنْهُمْ إِذْ بَنَيْنَا فَوْقَهُمْ سَمَاءً أَطْلَعْنَا فِيهَا الشَّمْسَ والقَمَرَ وَالكَوَاكِبَ.
ثانِيها: مَا كُنَّا لِنَتْرُكَهُمْ بِغَيْرِ رِزْقٍ، ولذلكَ فقد أَنْزَلْنَا المَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ لنَسْقيَهُمْ مِنْهُ، ونُنْبِتَ لهم الزَّرْعَ، ونُمْرِعَ الضَّرْعَ.
والثالثُ: لَمْ نَغْفُلْ عَنْ حِفْظِهِمْ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ السَّمَواتُ، أوْ شيْءٌ منها عَلَيْهِمْ فَتٌهْلِكَهُمْ.
وَنَفْيُهُ الْغَفْلَةَ عَنْ ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ الْعَلِيَّةِ، هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ عِنَايَتِهِ بِهِمْ، وَمُلَاحَظَتِهِ أُمُورَهِمْ وشُؤُونَهُم، فَقد أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ فِي خَلْقِ الطَّرَائِقِ السَّمَاوِيَّةِ لِمَا خُلِقَتْ لَهُ لُطْفًا بِالنَّاسِ أَيْضًا، فَإِنَّ نِظَامَ خَلْقِهَا صَالِحٌ لِانْتِفَاعِهم بِهِ، فِي أَسْفَارِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، ومعرفةِ مَوَاقِيتِهِمْ وضبطِها، وَكَمَا قَالَ ـ تَبَارَكَ وتعالى، منْ سُورةِ الأَنعامِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الْآيةَ: 97. وكما قالَ مِنْ سُورةِ النحلِ: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} الآيةَ: 16.
وقد عَدَلَ هُنَا عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فَقَالَ: "وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ"، وَكانَ مِنَ الممكِنِ أَنْ يُقَالَ: "وَمَا كُنَّا عَنْكُمْ غَافِلِينَ" فَأَظْهَرَ الخَلْقَ ولمْ يأْتِ بِضميرهم، لِمَا يُفِيدُهُ هَذا الاسْمُ الْمُشْتَقُّ مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ: مَا كُنَّا عَنْكُمْ غَافِلِينَ لِأَنَّكُمْ مَخْلُوقَاتُنَا، ولذلكَ فَنَحْنُ نُعَامِلُكُمْ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَفِي ذَلِكَ تحفيزٌ لهم على شُكْرِهٍ وعَدمِ الكُفْرِ بهِ ـ سُبْحانَهُ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ ذلكَ عَلَيْهِم.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلٍهٍ ـ تَعَالَى: "وَمَا كُنَّا عَن الْخلق غافلينَ" قَالَ: لَو كَانَ اللهُ مُغْفِلًا شَيْئًا أَغْفَلَ مَا تَسْفِي الرِّيَاحُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ. يَعْنِي الخُطا.
وَإِنَّمَا جاءتْ هَذِهِ الآيةُ بَعْدَ ذِكْرِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ المُدْهِشَ، مَا خَلَقَهُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ يُريدُها، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يُثيبَ المُحْسنينَ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، وَالْمُسِيئِينَ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} الواوُ: للاسْتِئْنَافِ، وَاللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "قد" للتَّحْقِيقِ. و "خَلَقْنَا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "فَوْقَكُمْ" مَنْصوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَلَقْنَا"، وهو مُضَافٌ، وكافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّر. وَ "سَبْعَ" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَهُوَ مُضَافٌ، وَ "طَرَائِقَ" مَجْرُورٌ بِالإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَعَلَامَةُ جَرِّهِ الفَتْحَةُ نِيَابَةً عَنِ الكَسْرةِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ، بِوَزْنِ "مَسَاجِدَ"، وَالْجُمْلَةُ الفَعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفِ تَقْديرُهُ: وعَظَمَتِنَا لَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاواتِ الَّتِي تَعْلُو الإِنْسَانَ، بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِهِ هُوَ، فَلَا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} الواوُ: حَالِيَّةٌ. و "مَا" نَافِيَةٌ. وَ "كُنَّا" فِعْلٌ ماضٍ نَاقِصٌ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لِاتِّصَالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" المعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهَ وتَعَالى، و "نا" التَعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ، اسْمُ "كانَ" وقدْ حُذِفتِ أَلِفُها لالتقاءِ ساكنينِ. و "عَنِ" حرفُ جَرٍّ مُتَعلقٌ بالخَبَرِ بَعْدَهُ "غَافِلِينَ"، و "الْخَلْقِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "غَافِلِينَ" خَبَرَ "كَانَ" منصوبٌ بها. وجملةُ "كانَ" مِنِ اسمِها وخبرِها في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ ضميرِ الفَاعِلِ في "خَلَقْنَا".