الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 66
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ
(66)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} تَعْلِيلٌ صريحٌ لِعَدَمِ نَصْرِ اللهِ ـ تعالى، لهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمِ بِالآياتِ التي أَنْزَلَها اللهُ على نَبِيَّهِ ـ صلَّىَ اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، آياتِ القرآنِ الكَريمِ، وهوَ ما يرجِّحُ الوَجْهِ الأَوَّلَ الَّذي ذَهَبْنَا إِلَيْهِ في تَأْويلِ النَّصْرِ الوارِدِ في الآيَةَ الَّتي قبلَها، وَأَنَّ "مِنْ" منْ قولِهِ "منا" هِيَ للابْتِداءِ. وَلَوْ كَانَ النَّصْرُ الْمَنْفِيُّ مُتَوَهَّمًا مِنْ غَيْرِ اللهِ لَعُلِّلَ بِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ بِعِزَّةِ اللهِ ـ تَعَالَى، التي لا ترامُ وَقُوَّتِهِ التي لا تُكْسَرُ ولا تُضامُ.
قولُهُ: {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} أَيْ: فكُنْتُمْ عِنْدَما يَتْلُوا عَلَيْكُمُ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، آياتِ القُرْآنِ الكَريمِ "تَنْكِصُونَ" أَيْ: تَرْجعونَ عَمَّا فيها مِنَ الخَيْرِ، وتَفِرُّونَ فتُصِمُّونَ عَنْها آذانَكُمْ وَتُديرونَ لَهَا ظُهُورَكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ: "تَنْكِصُونَ": تَسْتَأْخِرُونَ.
وَالْأَعْقَابُ: مُؤَخَّرُ الْأَرْجُلِ. وَالنُّكُوصُ هُنَا تَمْثِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ وَذِكْرُ الْأَعْقَابِ تَرْشِيحٌ لِلتَّمْثِيلِ. والنَّكْصُ عَنِ الشَّيْءِ: التراجُعُ والإحجامُ. وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا في الرُّجوعِ عَنِ الخيرِ خاصَّةً. يُقَالُ: نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ يَنْكِصُ ويَنْكِصُ نَكْصًا ونُكوصًا، ونَكَصَ ونَكَفَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالمَنْكَصُ، كَ "مَقْعَدٍ": "المُتَنَحَّى"، وَمِنْهُ قولُ الشَّاعِرِ الأَعْشَى التميميِّ يَمْدَحُ عَلْقَمَةَ بْنَ عُلاَثَةَ:
أَعَلْقَمُ قد صَيَّرَتْنِي الأُمُورُ .................... إِليْكَ وَمَا كَانَ لِي مَنْكَصُ
قولُهُ تَعَالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} قَدْ: حَرْفُ تَحْقِيقٍ. و "كَانَتْ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفتْحِ، والتاءُ السَّاكنةُ لِتَأْنيثِ الفاعِلِ، و "آياتي" اسْمُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وعَلامةُ رَفعِهِ مُقدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لانْشِغالِ المَحَلِّ بالحركةِ المُناسِبةِ لليَاءِ، وهوَ مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعرابِ.
قولُهُ: {تُتْلَى عَلَيْكُمْ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ الرَّفعِ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورها على الألِفِ، والنَّائِبُ عَنْ فَاعِلِهِ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يعودُ على "آيات". و "عَلَيْكُمْ" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُتْلَى"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ: علامةُ الجَمْعِ المُذكَّر، وَجُمْلَةُ "تُتْلَى" الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِها خَبَرَ "كان".
قولُهُ: {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} الفاءُ: عاطِفَةٌ. و "كنتم" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ التَّاءُ، وهي ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُهُ، والميمُ: عَلَامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَنْكِصُون"، وَقالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: أَوْ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنْ ضَمِيرِ الفَاعِلِ فِيهِ. وَلَا حَاجَةَ إِلى ذَلِكَ. و "أَعْقَابِكُمْ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ: للجَمْعِ المُذَكَّرِ والجملةُ مِنْ "كانَ" وايْمِها وخبرِها مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "كانَ" الأُولَى.
قولُهُ: {تَنْكِصُون} فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "كانَ".
قرَأَ العامَّةُ: {تَنْكِصُونَ} بكَسْرِ الكافِ، وَقَرَأَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عليٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، "تَنْكُصُون" بِضَمِها، وَهِيَ لُغَةٌ فِيهِ، كما تَقَدَّمَ في مَبْحثِ التفسيرِ، واللهُ أَعْلَمْ.