الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ
(2)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} خَصْلَةٌ كريمةٌ تُنْبِئُ عَنْ رُسُوخِ إِيمَانِ صَاحِبِهَا مَنْ الْخِصَالِ الَّتيَ بِسَبَبِها أَفَلَحَ المُؤْمِنُونَ، أَلَا وهِيَ عَمودُ الدِّينِ كَمَا وَصَفَهَا نَبِيُّنا الكَريمُ ـ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وأَكْمَلُ التَّسْليمِ، وَعَلى أَهْلِ بَيْتِهِ، وأَصْحابِهِ أَجْمَعينِ. فَقَدْ أخْرجَ أَبُو نُعَيْمٍ الفَضْلُ ابْنُ دكينٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ بِلَالِ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ عَمُودُ الدِّينِ} وَهُوَ مُرْسَلٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ كَمَا قالَ الإمامُ السَّخاويُ في المقاصِدِ الحَسَنةِ: (1/370). وَكَمَا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفةُ الحَسَنةُ مِنْ أَسْبابِ فَلاحِ المُؤْمِنينَ، فإِنَّ تركَها هوَ مِنَ الصِّفاتِ السَّيِّئةِ الًّتي تَكونُ سَبَبًا في هَلاكِ صَاحِبِهَا، قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ المُدَّثِّر: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} الآيَتانِ: (42 ـ 43).
وَالْخُشُوعُ فيها عِمَادُ قيامِها، لِأَنَّهُ رُوحُها، والجِسْمُ لا يَقُومُ إِلَّا بالرُّحِ فيهِ، والْخُشُوعُ هُوَ خَوْفٌ يُوجِبُ تَعْظِيمَ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ، وهوَ مِنْ خَشَعَ: إِذا خافَ وخَضَعَ، يُقالُ: خَشَعَ فلانٌ وَاخْتَشَعَ. وَخَشَعَ فلانٌّ بِبَصَرِهِ، إذا غَضَّ بَصَرَهُ. وَتَقْيِيدُهُ هُنَا بِالصَّلَاةِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الوَصْفَينِ: أَدَائها الْخُشُوعِ فِيهَا، وَالْخُشُوعُ للهِ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَهُوَ مَطْلوبٌ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِهَا، لِمَا أَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي "الزُّهْدِ"، وَعبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ ابِنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ وَكَرَّمَ وجْهَهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: "الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهمْ خَاشِعُونَ" قَالَ: (الْخُشُوع فِي الْقَلْبِ، وَأَنْ تُلِينَ كَنَفَكَ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ، وَأَن لَّا تَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِكَ). وَإِنَّما ذُكِرَ الخُشوعُ مَعَ الصَّلَاةِ لِأَنَّها الأَوْلَى بِهِ، وَهُوَ بِهَا أَعْلَقُ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ عَلَى باقي صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ، وَلِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ حَالَ الصَّلَاةِ، فَيُشْعِرُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، فَيَخْشَعُ لَهُ.
وَهَذَا مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الإِلَهِ الْخَالِقِ العَظِيمِ ـ جَلَّ وعَلَا، وَصِفَةُ الخُشوعِ لَهُ ـ تَعَالَى، رَأْسُ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَصْدَرُ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا.
وَتَقْدِيمُهُ: "فِي صَلاتِهِمْ" عَلَى "خاشِعُونَ" لِلِاهْتِمَامِ بِالصَّلَاةِ إِيذَانًا بِأَنَّ لَهُمْ تَعَلُّقًا شَدِيدًا بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْإِضَافَةِ أَنْ تُفِيدَ شِدَّةَ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهَا عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ. فَلَوْ أَنَّهُ قِيلَ: "الَّذِينَ إِذَا صَلَّوْا خَشَعُوا"، لَفَاتَ هَذَا الْمَعْنَى السَّامي.
وَجيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةُ لتَدُلَّ عَلَى ثَبَاتِ الْخُشُوعِ للمُؤْمِنِينَ المُفلحينَ وَدَوَامِهِم عَلَيْهِ، فَهُوَ خُلُقٌ كَريمِ مِنْ أَخْلَاقِهِم السَّاميَةِ.
وَللْخُشوعِ في الصَّلاةِ مَظَاهِرُ كَالإمْسَاكِ عَنِ الكَلَامِ الَّذي لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلاةِ، وَسُكونِ الجَوَارِحِ، وَعَدَمِ الالْتِفَاتِ، وَالنَّظَرِ إِلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ مَعَ خَفْضِ الرَّأْسِ قَلِيلًا، وَغَضِّ الطَّرْفِ، وَعَدَمِ النَّظِرِ إِلَى السَّمَاءِ، وكُلُّها مِنْ آدابِ الصَّلاةِ. فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيق الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبي بَكْرٍ، عَنْ أُمِّ رُومَانَ وَالِدَةِ السِّيِّدَةِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها وعنْهُم جَمِيعًا، قَالَتْ أُمُّ رُومانَ: رَآنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّديقُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَتَمَيَّلُ فِي صَلَاتي، فَزَجَرَني زَجْرَةً كِدتُّ أَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتي، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَكِّنْ أَطْرَافَهُ، لَا يَتَمَيَّلْ تَمَيُّلَ الْيَهُودِ فَإِنَّ سُكُونَ الْأَطْرَافِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبِيهَا وَأَرْضَاهُمَا، أَنَّها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: ((هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ العَبْدِ)).
وقدْ كانَ أَبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إذا وقفَ للصَّلاةِ ظننتَهُ عُودًا لِشِدَّةِ ثباتِهِ وخشوعِهِ.
فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي "الزُّهْدِ" عَنِ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ لِلصَّلَاةِ كَأَنَّهُ عُودٌ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ.
وَأَخْرَج ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ ـ جَلَّ وَعَلَا: "الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهمْ خَاشِعُونَ" قَالَ: كَانُوا إِذا قَامُوا فِي الصَّلَاة اقْبَلُوا عَلى صَلَاتِهِمْ، وَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ إِلَى مَوْضِعِ سُجودِهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ اللهَ يُقْبِلُ عَلَيْهِم، فَلَا يَلْتَفِتونَ يَمِينًا ولَا شِمَالًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهمْ خَاشِعُونَ" قَالَ: الْخُشُوع فِي الْقَلْبِ، وَقَالَ: سَاكِتُونَ.
فإِذَا الْتَزَمُ العَبْدُ الأَدَبَ مَعَ رَبِّهِ وهو في الصَّلاةِ، مُقبلًا بكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللهِ أَقبلَ رَبُّهُ عَلَيْهِ إِقْبَالَ رِضًى، فإِذا الْتَفَتَ قَلْبُهُ عَنْ مَولاهُ، تَرَكَهَ اللهُ لِمَا الْتَفتَ إلَيْهِ، فَقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، عَنِ عبدِ اللهِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ اللهَ لَا يَزَالُ مُقْبِلًا عَلَى العَبْدِ مَا دَامَ فِي صَلَاتِهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَلْتَفِتْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ: (أَقْعِدوني، أقْعِدوني، فَإِنَّ عِنْدِي وَدِيعَةً أُودِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا يَلْتَفِتْ أَحَدُكُم فِي صَلَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَفِي غَيْرِ مَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَة ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُولُ: إِذَا صَلَّيْتَ فَإِنَّ رَبَّكَ أَمامَكَ، وَأَنْتَ مُنَاجِيهِ، فَلَا تَلْتَفِتْ. قَالَ عَطاء: وَبَلَغَنِي أَنَّ الرَّبَّ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِلَى مَنْ تَلْتَفِتْ؟ أَنَا خَيْرٌ لَكَ مِمَّنْ تَلْتَفِتُ إِلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهمْ خَاشِعُونَ" قَالَ: هُوَ سُكُونُ الْمَرْءِ فِي صَلَاتِهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذر عَن قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ هُوَ الْخَوْفُ وَغَضُّ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ جلَّ جلَالُهُ العظيمُ: "الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهمْ خَاشِعُونَ"، قَالَ: كَانَ خُشُوعُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ فَغَضُّوا بِذَلِكَ أَبْصَارَهُمْ، وَخَفَضُوا لِذَلِكَ الْجَنَاحَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَن ابْن عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما، فِي قَوْله "الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهمْ خَاشِعُونَ" قَالَ: خائفونَ سَاكِنُونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ السُّكُوتُ فِيهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: إيَّاكُمْ والِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِلْمُتَلَفِّتِ، وَإِذَا غُلِبْتُمْ عَلى تَطَوُّعٍ، فَلَا تُغْلَبُوا عَلى الْمَكْتُوبَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ الحَكَمِ، قَالَ: إِنَّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ أَن لَّا تَعْرِفَ مَنْ عَنْ يَمِينِكَ وَلَا مَنْ عَنْ شِمَالِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا عَنْ أَبي قُلَابَةَ قَالَ: سَأَلْتُ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ عَنِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: تَضَعُ بَصَرَكَ حَيْثُ تَسْجُدُ.
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ بِحُلْيَتِهِ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا خَشَعَتْ جَوَارِحُهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مُنْقِذٍ أَنَّهُ، قَالَ: إِذَا قَامَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ أَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، فَإِذا الْتَفَتَ، أَعْرَضَ عَنْهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا قَامَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ أَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ.
فإذا الْتَفَتَ كانَ ذلكَ دليلًا على انْشغالِ قلبِهِ بغيرِ مَولاهُ، وكانَ ذلكَ مِنْ صِفاتِ المنافقينَ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي "الزُّهْدِ" عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ. قِيلَ لَهُ: وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ؟ قَالَ: أَنْ تَرَى الْجَسَدَ خَاشِعًا، وَالْقَلْبَ لَيْسَ بِخَاشِعٍ.
وقدْ كانَ النَّبِيُّ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، سيِّدَ الخاشعينَ وإِمَامَهُمْ، يفعَلُ مِثْلَ هَذِهِ الأعمالِ وهو في الصَّلاةِ فنَهَاهُ عَنْ ذلكَ ربُّهُ وعَلَّمَهُ وَأَدَّبَهُ فأحسَنَ تَأْديبَهُ، كَمَا قَالَ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((أَدَّبَني ربِّي فأحْسَنَ تأْديبي)). وذلكَ لِيُعَلِّمَ أُمَّتَهُ ويؤدِّبِهَا. فَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا صَلَّى يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَتْ: "الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ".
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ نَظَرَ هَكَذَا وَهَكَذَا يَمِينًا وَشِمَالًا فَنَزَلَتْ: "الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ" فَحَنَى رَأْسَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِينَ أَيضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَأَنْزَلَ اللهُ ـ تَعَالى: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهمْ خَاشِعُونَ"، فَمَالُوا بِرُؤوسِهِمْ، فَلَمْ يَرْفَعُوا أَبْصَارَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاة وَلَمْ يَلْتَفِتُوا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رُبُّمَا يَنْظُرُ إِلَى الشَّيْءِ فِي الصَّلَاةِ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةٌ، إِن لَّمْ تَكُنْ هَذِهِ فَلَا أَدْرِي مَا هِيَ "الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهمْ خَاشِعُونَ" فَوَضَعَ رَأْسَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنْ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَتْ: "الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهمْ خَاشِعُونَ" فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ سَيِّدِنا رَسُولِ اللهِ أَحَاديثُ فِي النَّهْيِ عَنْ ِتِلْكَ الأَفْعَالِ المُنَافِيَةِ للخُشُوعِ في الصَّلاةِ لِمَا فِيهَا مِنْ سُوءِ الأَدَبِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ ـ جَلَّ جَلَالُهُ العَظِيمُ.
وَفِي هَذِهِ الأَحَاديثِ الشَّريفَةِ مِنَ التَّهْديدِ وَالْوَعِيدِ مَا يَقْصِمُ الظَّهُورَ، كَالَّذي أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، والدّارِميَّ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ)). مُسْندُ ابْنِ أَبي شَيْبَةَ: (2/48، رقم: 6316). ومُسْنَدُ أَحْمَدٍ: (5/90، بِرقم: 21126) و (5/93، برقم: 21168). و (5/101، برقم: 21274). و (5/108، برقم: 21356). وَسُنَنُ الدَّارِمِيِّ: (1/339، برقم: 1301). وَصَحِيحُ مُسْلِمٍ: (2/29، برقم: 897). وسُنَنُ أَبي داودَ: (1/240، برقم: 912). وَسُنَنُ ابْنِ مَاجَة: (1/332، 1045).
وَأَخْرَجَ أَبو داودَ الطَّيالِسِيُّ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَا بَالُ أَقْوامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صلَاتِهم؟ فَاشْتَدَّ قولُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ)). أَخْرَجَهُ الأَئمَّةُ: الطَّيَالِسِيُّ: (ص: 270، رقم: 2019)، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (2/48، رقم: 6317)، وَأَحْمَدُ: (3/109، رقم: 12084)، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: (ص: 360، رقم: 1196)، والبُخارِيُّ: (1/261، رقم: 717)، وأَبُو دَاوُدَ: (1/240، رقم: 913)، والنَّسَائيُّ: (3/7، رقم: 1193)، وَابْنُ مَاجَهْ: (1/332، رقم: 1044)، والدَّارِمِيُّ: (1/339، رقم: 1302)، وَابْنُ حِبَّانَ: (6/61، رقم: 2284)، وَابْنُ خُزَيْمَةَ: (1/242، رقم: 475).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ). وَحُكْمُ هَذا الحديثِ حكمُ المَرْفوعِ لأنَّهُ ما كانَ لابنِ أُمِّ عَبْدٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنْ يَقُولَ ذلِكَ مِنْ تلقاءِ نَفْسِهِ لو لمْ يَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ كانَ يَتَحَرَّجُ مِنْ أَنْ يقولَ: (قالَ رسولُ اللهِ) خَشْيَةَ أَنْ يكونَ قدْ نَسِيَ حرفًا أوْ بدَّلَ حرفًا بِمَعْنَاهُ سهوًا مِنْهُ، فقد رَوَى عَنَهُ أَحَدُ رُواتِهِ أَنَّهُ بَقِيَ يُحدِّثُهم عامًا كاملًا أحاديثَ لا يَرْفَعُهَا إلى سيِّدِنا رَسولِ اللهِ، ثمَّ قالَ مَرَّةً: (قالَ رَسُولُ اللهِ): فاضْطَّربَ وَتَغَيَّرَ لَوْنُ وَجْهِهِ، وبَدا الخوفُ عَلَى مُحَيَّاهُ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يكونَ سها أَوْ نسيَ شيْئًا فغيرَ أَوْ بدَّلَ فيَشمَلهُ حديث: مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا ... .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُم إِذَا رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ أَن لَّا يَرْجِعَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ. يَعْنِي وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ.
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ، عَنْ أَبي بَكْرٍ الصِّديقِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ((تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ؟ قَالَ: خُشُوعُ الْبَدَنِ وَنِفَاقُ الْقَلْبِ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، مِنْ طَرِيقِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بنِ عَامِرٍ الحَضْرَمِي ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ يَوْمًا فَقَالَ: ((هَذَا أَوَانُ مَا يُرْفَعُ الْعِلْمُ)). فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يُرْفَعُ وَقَدْ أُثْبِتَ فِي الْكُتُبِ وَوَعَتْهُ الْقُلُوبُ؟ فَقَالَ: ((إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ))، ثُمَّ ذَكَرَ ضَلَالَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى مَا فِي أَيْديهِمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ، قَالَ: فَلَقِيتُ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ، فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ عَوْفٌ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَوَّلِ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: الْخُشُوعُ حَتَّى لَا تَرَى خَاشِعًا.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ)). فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيفَ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟ فَوَ اللهِ لَنَقْرَأَنَّهُ، وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا يُغْني عَنْهُمْ؟)). فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ وَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ، وَإِنْ شِئْتَ لَأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ، الْخُشُوعُ يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، فَلَا تَرَى فِيهِ رَجُلًا خَاشِعًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي "الزُّهْدِ"، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ حُذَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْخُشُوعُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الصَّلَاةُ. وَلَتَنْقُضُنَّ عُرَا الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، ولَيُصَلِّيَنَّ النِّسَاءُ وَهُنَّ حِيضٌ، ولَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ القُذَّةِ بالْقُذَّةِ (القُذَّةُ: رِيشُ السَّهْمِ، وحَذَاهُ: قَعَدَ بِحِذائِهِ) وَحَذْوَ النَّعْلِ بالنَّعْلِ، لَا تَخْطُو طَريقَهُمْ، وَلَا تُخْطِئُ بِكُمْ حَتَّى تَبْقَى فِرْقَتَانِ مِنْ فِرَقٍ كَثِيرَةٍ تَقُولُ إِحْدَاهُمَا: مَا بَالُ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ؟، لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، إِنَّمَا قَالَ اللهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} الْآيَةَ: 114، مِنْ سُورَةِ هودٍ، لَا تُصَلُّوا إِلَّا ثَلَاثًا. وَتَقُولُ الْأُخْرَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ كَإِيمَانِ الْمَلَائِكَةِ، لَا فِينَا كَافِرٌ وَلَا مُنَافِقٌ. حَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يَحْشُرَهَا مَعَ الدَّجَّالِ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدٌ عَنْ أَبي الْيُسْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي النِّصْفَ، وَالثُّلُثَ، وَالرُّبُعَ))، حَتَّى بَلَغَ الْعُشْرَ.
قولُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} الَّذِينَ: اسْمٌ مَوْصُولٌ للجَمْعِ المُذَكَّرِ، مبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ، صِفَةً لِـ {الْمُؤْمِنُونَ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها. و "هُمْ" ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ لِجَمَاعَةِ الغائبينَ الذُّكُورِ أَيْضًا، مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. وَ "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالخَبَرِ "خَاشِعُونَ" وقد قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمامِ بِهِ، وَحَسَّنَهُ كَوْنَ مُتَعَلَّقِهِ فاصِلَةً، وَ "صَلَاتِهِمْ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ عَلَامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ.
وَقَدْ أُضِيْفَتِ الصَّلاةُ إِلَيْهِم لِأَنَّهُمْ هُمُ المُنْتَفِعُونَ بِهَا دُونَهُ، وَالمُصَلَّى لَهُ ـ سُبحانَهُ وتَعَالَى، غَنِيٌّ عَنْهَا. وَ "خَاشِعُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ، وعلامةُ رَفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذين" لا محلَّ لها مِنَ الإعراب.