لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
(83)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} وقالوا أَيْضًا: إِنَّ آبَاءَهم قدْ وُعِدُوا مِنْ قَبْلُ بِمِثْلِ هَذَا الذي يَعِدُ بِهِ سيِّدُنا ونبيُّنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، مِنَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ للحِسابِ والجَزاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَرَوْنَ ذَلِكَ مَحْضَ كَذِبٍ وافْتِرَاءٍ مِنْهُ ـ صلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَمِمَّنِ ادَّعى النُّبُوَّةَ قبْلَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ ولنْ يَقَعَ.
وَقَدْ قَصَدوا بِـ "آباؤُنا" الأُمَمَ السَّالِفَةَ البائدَةَ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا أَيْضًا مَنْ يعِدُها بالبَعْثِ بَعْدَ الْمَوتِ للحِسابِ والجَزاءِ عَلَى ما قَدَّمَتْ مِنْ عَمَلٍ، إنْ خَيْرًا فخيرٌ، وإِنْ شَرًّا فشَرٌّ.
قولُهُ: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ثُمَّ قَالُوا: إِنَّ هَذَا مِنْ قَبيلِ القصَصِ الخَيالِيَّةِ، والأَسَاطِيرِ الَّتي تُرْوَى عَنِ الأَمَمِ البائدَةِ السَّابقةِ، مُؤَكِّدينَ ذِلِكَ بـ "إنْ" النافيَةِ و "إلَّا" الَّتِي تُفيدُ الحَصْرَ.
والأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطورةٍ بالضم، وَإِسْطارَةٍ بالكَسْرِ. وَتَعْنيَ المَوْرُوثُ مِنَ قِصَصِ القُدَماءِ الخُرَافِيةُ وأَباطيلِهِمْ وأكاذيبِهِمُ المَسْطُورَةِ في كُتُبِهِم. مِنَ السَّطْرِ: الذي هُوَ الصَفُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. فتَقولُ: بَنَى فُلانٌ سَطْرًا مِنَ الحجَرِ، وَغَرَسَ الفلّاحُ سَطْرًا مِنَ الغِراسِ. وَالسَّطْرُ ـ أَيْضًا: الخَطُّ وَالكِتَابَةُ، وَهُوَ فِي الأَصْلِ مَصْدَرٌ. وَالسَّطَرُ ـ بالتَّحْريكِ مِثْلُهُ. ومِنْهُ قَولُ جَريرِ بْنِ عَطِيَّةَ:
مَنْ شاءَ بايَعْتُهُ مالي وخُلْعَتَهُ ......... ما تُكْمِلُ التَيْمُ فِي دِيوانِهِمْ سَطَرا
وَيُجْمَعُ ـ أَيْضًا، عَلى "أَسْطارٌ". كَمَا في قوْلِ رُؤْبَةَ بْنِ العَجَّاجِ، الشَّاعِرُ الرَّاجِزُ:
إِنِّ وِأَسْطارٍ سُطِرْنَ سَطْرًا .................... لَقائِلٌ يا نَصْرُ نَصْرًا نَصْرَا
وَيُجْمَعُ السَّطْرُ عَلَى: "أَسْطُرٍ" و "سُطورٍ". وَسَطَرَ يَسْطُرُ سَطْرًا: كَتَبَ. وَاسْتَطَرَ مِثْلُهُ.
وَالمُسَيْطِرُ أَوِ المُصَيْطِرُ ـ بالصَّادِ أَوِ السِّينِ: هُوَ المُهَيْمِنُ عَلَى الشَّيءِ المُسَلَّطُ لِيُشْرِفَ عَلَيْهِ ويتعهَّدَهُ، ويراقِبَ أَحْوَالَهُ، وَيَكْتُبَ عَمَلَهُ.
وَأَصْلُهُ مِنَ السَّطْرِ، لِأَنَّ الكِتَابَ مُسَطَّرٌ، وَالَّذي يَفْعَلُ ذَلِكَ فهوَ مُسَطِّرٌ أَوْ مُسَيْطِرٌ ـ سِيَّانِ. تَقولُ: سَيْطَرْتَ عَلَيْنَا. كما قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الغاشِيَةِ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عليهم بمُصَيْطِرٍ} الآيتانِ: (21 وَ 22)، وَسَطَرَهُ فُلانٌ فُلانًا: صَرَعَهُ.
قولُهُ تَعَالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} لَقَدْ: اللَّامُ: هِيَ المُوَطِّئَةُ للقَسَمِ. و "قَدْ" حَرْفٌ للتَّحْقِيقِ. و "وُعِدْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مُغَيَّرُ الصِّغةِ، مَبْنِيٌّ للمجهولِ، مَبنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" الجماعَةِ، وَ "نَا" الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالنِّيابَةِ عَنْ فاعِلِهِ. وَ "نَحْنُ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مبنيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ الرَّفعِ تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ النَّائِبِ عَنْ فاعِلِهِ لِيَصِحَّ العَطْفُ عَلَيْهِ. و "وَآبَاؤُنَا" الواوُ: للعَطْفِ، و "وَآبَاءُ" مَعْطُوفٌ عَلَى ضَمِيرِ النائِبِ عَنْ فاعِلِهِ، مَرْفوعٌ مِثْلُهُ، وهُوَ مُضافٌ، و "نا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "هَذَا" الهاءُ: للتَّنْبيهِ، وَ "ذا" اسْمُ إِشَارَةٍ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِهِ مَفْعُولَ "وُعِد" الثَّاني. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "وُعِد"، و "قَبْلُ" مبنيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ المَحذوفِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَولِ لِـ {قَالُوا} مِنَ الآيةِ السَّابِقَةِ.
قولُهُ: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} إِنْ: نَافِيَةٌ بِمَعْنَى "ما". و "هَذَا" الهاءُ: للتَّنْبيهِ، و "ذا" اسْمُ إِشارةٍ مَبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ (للحَصْرِ). وَ "أَسَاطِيرُ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرفوعٌ، مُضافٌ. و "الْأَوَّلِينَ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ {قَالُوا} مِنَ الجُمْلَةِ الَّتي قَبْلَهَا عَلَى كَوْنِهَا استِئْنافًا لِلْقَولِ.