الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 34
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} كانَ المَلَأُ مِنْ قومِ صالحٍ أَوْ هُودٍ، على ما تقدَّمَ بيانُ الخلافِ فيهِ، قدْ جَزَمُوا للعامَةِ مِنْ قومِهِمْ أَنَّ هَذَا الَّذي يَدَّعي أَنَّهُ نبيٌّ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ ـ تَعَالى، هوَ كاذِبٌ، لأنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ يأكُلُ الطَّعامَ ويمشي في الأَسْواقِ، إلى غيرِ ذلكَ مِمَّا يفعَلُهُ غَيْرُهُ مِنَ البَشَرِ، فكيفَ يكونُ مُرْسَلًا مِنَ اللهِ إِلَيهِمْ وهوَ منهُمْ؟ فَلَوْ أَنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، أَرادَ أَنْ يُرْسِلَ رسولًا إلى البشَرِ، لاخْتَارَهُ مِنْ ملائكَةِ السَّماءِ المُقَرَّبينَ إِلَيهِ.
وقد رَدَدْنا حُجَّتَهُمْ عليْهِم في تفسيرِنا للآيةِ السَّابِقَةِ، وَهنا تُتَابِعُ الآيةُ الكَريمةُ عَرْضَ مَقَالَتِهِم فَإنَّهم حَذَّروا العامَّةَ مِنْ مَغَبَّةِ اتِّباعِ بَشَرٍ مِثْلَهُم وعبادَةِ الإلهِ الذي يدعوهُمْ إلى عبادَتِهِ لأنَّهُم إِنْ فَعَلوا مَا يَأْمُرُهُم بِهِ سَيَخْسَرُونَ بَرَكَةَ آلِهَتِهِمْ ومودَّةَ زُعَمائهِمْ وعَطْفَهُم علَيْهِمْ ومُساعَدَاتِهِمْ ومعوناتِهِم، ورُبَّما يخسرونَ أَعمالَهُمْ الَّتي يَعْتَاشُونَ ويرتزقونَ مِنها عِنْدَهم. ولَنْ يستَطيعَ هَذا الذي يدَّعي النُّبوَّةَ والرِّسالةَ أَنْ يعوِّضَهُمْ ما خَسِرِوهُ، لأَنَّ الإلَهَ الَّذي يَدْعُوهم لِلْإِيمانِ بِهِ وَعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ غَيرُ مَوجودٍ أَصْلًا.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ} الواوُ: عاطفَةٌ. وَاللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، و "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازِمٌ. و "أَطَعْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ تاءُ الفاعِلِ، فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، والتَّاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والتَّاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والميمُ: للجَمْعِ المُذَكَّر. و "بَشَرًا" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "مِثْلَكُمْ" صِفَةٌ لِـ "بَشَرًا" منصوبةٌ مِثْلُهُ، وَهُوَ مُضَافٌ، و كافُ الخِطَّابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ، والميمُ: للجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَجُمْلَةُ القَسَمِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ مِنَ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} عَلَى كَوْنِهَا مَقُولَ "قَالَ".
قوْلُهُ: {إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} إِنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالْفِعْلِ، وكافُ الخِطَابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهَا، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "إِذًا" حَرْفُ شَرْطٍ غَيْرِ جَازِمٍ، بِمَعْنَى "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ، وقدْ جِيءَ بِهَا لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ، تَوْكِيدًا لَفْظيًا، مِنْ قَبِيلِ إِعَادَةِ الشَّيْءِ بِمُرَادِفِهِ، والتَّنْوِينُ فِيهَا عِوَضٌ عَنْ جُمْلَةِ شَرْطِهَا المَحْذوفَةِ، والتَّقْديرُ: إِنَّكمْ إِنْ أَطَعْتُمُوهُ لَخَاسِرُونَ، وَلَا جَوَابَ لَهَا لِأَنَّهَا إِنَّما ذُكِرَتْ لِتَأْكِيدِ مَا قَبْلَهَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قولُهُ "إِذًا" وَاقِعٌ فِي جَزَاءِ الشَّرْطِ، وَجَوَابٌ لِلَّذينَ قَاوَلُوهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ.
قالَ أَبو حَيَّانَ الأنْدَلُسِيُّ: وَلَيْسَ "إِذًا" وَاقِعًا فِي جَزَاءِ الشَّرْطِ، بَلْ وَاقِعًا بَيْنَ "إِنَّكُمْ" وَ "الخَبَرِ"، وَ "إِنَّكُمْ" و "الخَبَرُ" لَيْسَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ، بَلْ ذَلِكَ جُمْلَةُ جَوَابِ القَسَمِ المَحْذوفِ قَبْلَ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ. وَلَوْ كَانَتْ "إِنَّكم" وَ "الْخَبَرُ" جَوَابًا لِلشَّرْطِ، لَزِمَتِ الفَاءُ فِي "إِنَّكُمْ"، بَلْ لَوْ كَانَ بالفَاءِ فِي تَرْكيبِ غَيْرِ القُرْآنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّرْكيبُ جَائِزًا إِلَّا عِنْدَ الفَرَّاءِ. والبَصْرِيُّونَ لَا يُجيزونَهُ. فهُوَ عِنْدَهُمْ خَطَأٌ.
قالَ السَّمينُ الحَلَبيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ إِذًا تَوَالَى شَرْطٌ وَقَسَمٌ أُجِيبَ سَابَقُهُمُا، وَالْقَسَمُ هُنَا مُتَقَدِّمٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجَابَ، وَلَا يُجابُ الشَّرْطُ، وَلَوْ أُجِيبَ الشَّرْطُ لَاخْتَلَّتِ القَاعِدَةُ إِلَّا عِنْدَ بَعْضِ الكُوفِيِّينَ، فَإِنَّهُ يُجِيبُ الشَّرْطَ وَإِنْ تَأَخَّرَ. وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الشِّعْرِ.
وَ "لَخَاسِرُونَ" اللَّامُ: المُزَحْلَقةُ للتَّأْكيدِ (حَرْفُ ابْتِدَاءِ). و "خاسِرُونَ" خَبَرُ "إِنَّ" مَرْفوعٌ بِهَا. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" المَكْسُورَةِ الهَمْزَةِ، جَوَابُ القَسَمِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَجَوَابُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ القَسَمِ، والتَّقْديرُ: وَإِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ فَإِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ، وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولًا لِـ "قَالَ" أَيْضًا، عَلَى كَوْنِهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ القَسَمِ وَجَوَابِهِ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ "إِنَّ" المَكْسُورَةِ الهَمْزَةِ جَوَابُ الشَّرْطِ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ الفَاءِ، وَقدْ جرى هَذَا عَلَى القاعِدَةِ الَّتي ذَكَرَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي "الخُلَاصَةِ":
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطِ وَقَسَمْ ........ جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ