فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ الآية: 25
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} تَدْعِيمٌ لِقَوْلِهِمُ السَّابِقِ مِنَ الآيةِ التي قبلَها، الَّذي نَفَوْا بِهِ أَنْ يَكونَ ثَمَّةَ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ ـ تعالى، إلى البَشَرِ مِنَ البشَرِ أَنْفُسِهِم، وَأَنَّ اللهَ لَوْ كَانَ مُرْسِلًا رَسُولًا لِاخْتَارَهُ مِنَ مَلَائَكَتِهِ المُقَرَّبِينَ، ثُمَّ أَضَافُوا هُنَا نَعْتًا منفِّرًا لِنُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فوصفوهُ بالجُنُونِ حَصْرًا، حتَّى يَعْرِضَ العامَّةُ عنْهُ وَ لَا يَسْتَمِعَوا إِليْهِ.
قولُهُ: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أَيْ: فاصْبِروا عَلَيْهِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ، وَانْتَظِرُوا أَمْرًا يَحْدُثُ لَهُ، فَيُفيقَ مِنْ جُنُونِهِ، ويشفى ممَّا بِهِ مِنْ مَسٍّ أَوْ نَقتلهُ ونتخلَّصُ مِنْهُ، فَالتَرَبُّصُ: الانْتِظَارُ. مِنْ رَبَصَ رَبْصًا: إَذا انْتَظَرَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، والتَّرَبُّصُ بالشَّيْءِ: أَنْ تَنْتَظِرَ بِهِ يَوْمًا مَّا. والتَّرَبُّصُ: المُكْثُ أَيْضًا. ويَتَعَدَّى بالبَاءِ، وقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: تَرَبَّصَ فِعْلٌ يَتَعَدَّى بإِسْقَاطِ حَرْفِ الجَرِّ كَقَوْلِ الشّاعِرِ حمدَان البرتي، وقيلَ: قراص الأزدي:
تَرَبَّصْ بِها رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّهَا .............. تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا
والرُّبْصَةُ بالضّمِّ مِنْهُ. والرُّبْصَةُ أَيْضًا: التَّرَبُّصُ، يقَالُ: لِي في مَتَاعِي رُبْصَةٌ: أَيْ تَرَبَّصٌ ولِي عَلَى هذا الأَمْرِ رُبْصَةٌ: أَيْ تَلَبُّثٌ وأَقَامَتِ المَرْأَةُ رُبْصَتَها فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وهي الوَقْتُ الَّذِي جُعِلَ لزَوْجِهَا إِذا عُنِّنَ عَنْهَا فإِنْ أَتَاهَا وإِلاَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. والمُتَرَبِّصُ: المُحْتَكِرُ أَيضًا. وَهذا التَّرْكِيبُ يَدُلُّ عَلَى الانْتِظَارِ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ} إِنْ: نافِيَةٌ بمعنى "ما". و "هُوَ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ (أَداةُ حَصْرٍ). و "رَجُلٌ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْميَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قالَوا".
قولُهُ: {بِهِ جِنَّةٌ} بِهِ: الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "جِنَّةٌ" مَرْفوعٌ بالابْتِدَاءِ
مُؤَخَّرٌ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ، صِفَةً لِـ "رَجُلٌ".
قولُهُ: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} الفاءُ: هِيَ الفَصِيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ، وَالتَقْديرُ: إِذَا عَرَفْتُمْ حَقِيقَتَهُ المَذْكُورَةَ لَكُمْ، مِنْ أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُكمْ، وَرَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ، وَأَرَدْتُمْ بَيَانَ مَا هُوَ الأَصْلَحُ لَكُمْ، فَنَقُولُ لَكُمْ: تَرَبَّصُوا .. . وَ "تَرَبَّصُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ الفارِقَةُ. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقُ بِـ "تَرَبَّصُوا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ. و "حَتَّى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَرَبَّصُوا" أَيْضًا، وَ "حِينٍ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قالَ".