فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
(19)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ} فَأَنْشَأَنا لكم: أَيْ فَخَلَقْنَا لَكُمْ، أَوِ ابتَدَأْنا لَكُمْ بهَذا المَاءِ الَّذِي أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخيلٍ وأَعْنَابٍ. فَالإِنْشَاءُ: الخلْقُ والابْتِداءُ، لِأَشْياءَ لَمْ تَكُنْ مَوْجودَةً مِنْ قَبْلُ. وَقَوْلُهُمْ: أَنْشَأَ فُلانٌ يَفْعَلُ كَذَا، أَيْ: ابْتَدَأَ يَفْعَلُ أَمْرًا لمْ يَكُنْ مِنْ قبلُ يفعَلُهُ. والاسْمُ: النَّشْأَةُ وَالنَّشَاءَةُ بِالْمَدِّ، وَنَشَأَ يَنْشَأُ نَشْأً ونُشُوءً وَنَشَاءً ونَشْأَةً ونَشَاءَةً حَيِيَ، وأَنْشَأَ اللهُ الخَلْقَ: ابْتَدَأَهُ، والنَّشْأَةُ الأَخْرَى مِنْ قولِهِ ـ تَعَالى: {وأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرى} الآيةَ: 47، مِنْ سُورةِ النَّجْمِ، أَيْ: البَعْثَةُ يَوْمَ القَيَامَةِ.
وَالنَاشِئُ: الحَدَثُ الَّذي قَدْ جَاوَزَ حَدَّ الصِّغَرِ. وَالجَارِيَةُ نَاشِئٌ، وَالجَمْعُ: النَّشَأُ وَالنَشْءُ.
وَنَشَأَ الرَّجُلُ فِي بَنِي فُلانٍ، وَنُشِّئَ، وَأُنْشِئَ، نَشْأً، وَنُشُوءً: إِذَا شَبَّ فِيهِمْ، فهوَ ناشِئٌ والأنثَى نَاشِئٌ أَيْضًا. والجَمْعُ نَشَأٌ ونَشْءُ ومنهُ قَوْلُ الشَّاعرِ نُصَيْبِ بْنِ رَبَاحٍ، أَبي محْجَنٍ، فِي المُؤَنَّثِ:
ولَوْلا أَنْ يُقَالَ صَبَا نُصَيْبٌ ................ لَقُلْتُ بنَفْسِيَ النَّشَأُ الصِّغَارُ
وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، وكانَ شاعِرًا فَحْلًا، مُقَدَّمًا فِي الْمَدَائِحِ والنَّسيبِ.
وَناشِئَةُ اللَّيْلِ: أَوَّلُ سَاعَاتِهِ. أَوْ مَا يَنْشأُ فيهِ مِنْ عباداتٍ. والنُّشوءُ الارْتِفَاعُ ـ أَيْضًا، وَمِنْهُ: نَشَأَتِ السَّحَابَةُ: إذا ارْتَفَعَتْ، وَأَنْشَأَهَا اللهُ.
وَقَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ الرَّحمنِ: {وَلَهُ الجَوَارِ المُنْشَآتُ فِي البَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} الآيَةَ: 24، هِيَ السُفُنُ الَّتِي رُفِعَ قَلْعُهَا.
قولُهُ: {جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} جَنَّاتٍ: جَمْعُ جَنَّةٍ، مِنْ جَنَّ الشيءَ يَجُنُّهُ جَنًّا إذا سَتَرَهُ وأَخفاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ خَفِيَ وَسُتِرَ عنكَ فَقَدْ جُنَّ عَنْكَ، وَجَنَّهُ اللَّيْلُ يَجُنُّهُ جَنًّا وَجُنُونًا، وَجَنَّ عَلَيْهِ يَجُنُّ جُنُونًا، وأَجَنَّهُ سَتَرَهُ وَقولُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الأَنْعامِ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} الآيَةَ: 76، أَيْ: سَتَرَهُ، وَجُنونُ اللَّيْلِ شِدَّةُ ظُلْمَتِهِ، ومِنْهُ سُمِّيَ الجِنُّ جِنًّا لِاسْتِتارِهم عَنَّا وَاخْتِفائهم عَنْ أَبْصَارِنا، وَسُمِّيَ الجَنِينُ جَنِينًا لِاسْتِتَارِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، والجَنَانُ القَلْبُ، لِأَنَّهُ مَسْتورٌ في الصَّدْرِ، وَسُمِّيَ الرُّوحُ جَنَانًا لِأَنَّ الجِسْمَ يُجِنُّهُ وَالْجَمْعُ أَجْنَانٌ. وَقدْ يرادُ بِهِ جُنْحُ اللَّيلِ أَيْضًا، قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمَّةَ:
ولولا جَنانُ الليلِ أَدْرَكَ خَيْلُنَا ... بِذِي الرِّمْثِ وَالأَرْطَى عِيَاضَ بْنَ نَاشِبِ
فَتَكْنَا بِعَبْدِ اللهِ خَيْرِ لِدَاتِهِ ........... ذِئابَ بْنِ أَسْمَاءَ بْنِ بَدْرِ بِنِ قَارِبِ
وَقِيلَ هُما لِخُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ، وَيُرْوَى: وَلَوْلَا جُنُونُ اللَّيْلِ، أَيْ: مَا سَتَرَ مِنْ ظُلْمَتِهِ، وَعِيَاضُ: هو ابْنُ جَبَلٍ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدٍ، وقيلَ عِياضُ بْنُ نَاشِبٍ مِنْ فِزارةَ.
وَالجَنَنُ بالفَتْحِ هُوَ القَبْرُ لِسَتْرِهِ الْمَيِّتَ، قَالَ الأَعْشَى:
ولا شَمْطاءَ لم يَتْرُك شَفاها .................... لَهَا مِنْ تِسْعَةٍ إِلَّا جَنِينًا
جَنِينًا: أَيْ مَدْفونًا، أَيْ: قَدْ مَاتُوا كُلُّهُم فَجُنُّوا، أَيْ: دُفِنُوا. وَيُقالُ: جَنَنْتُهُ فِي القَبْرِ وَأَجْنَنْتُهُ أَيْ: وارَيتُهُ، وعليْهِ قَولُ الأَعْشَى أَيْضًا:
وَهَالِكُ أَهْلٍ يُجِنُّونَهُ ........................... كَآخَرَ فِي أَهْلِهِ لَمْ يُجَنّ
وَالجَنينُ المَقْبُورُ، وَالجَنَنُ المَيِّتُ، قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:
وَيا حَبَّذَا المَوْتُ الكَريهُ لِحُبِّهَا ....... وَيا حَبَّذَا العَيْشُ المُجَمَّلُ وَالجَنَنْ
وَالجَنَنُ أَيْضًا الكَفَنُ لأنَّهُ يَسْتُرُ المَيِّتَ، فيُقالُ أَجَنَّهُ إِذَا كَفَّنَهُ، قَالَ أَحَدُ الشُّعراءِ:
مَا إِنْ أُبَالي إِذَا مَا مُتُّ مَا فَعَلُوا .......... أَأَحْسَنُوا جَنَنِي أَمْ لَمْ يُجِنُّوني
والمِجَنُّ: الوِشَاحُ، والتُّرْسُ لِأَنَّه يُوارِي حامِلَهُ، وَفي حَديثِ سيِّدِنا عَلِيٍّ ـ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، كَتَبَ إِلَيَّ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قلَبْتَ لِابْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ المِجَنِّ. هو مَثَلٌ يُضْربُ لِمَنْ كَانَ عَلَى مَوْدَّةٍ، أَوْ رِعَايةٍ لِصَاحِبِهِ ثُمَّ تَحَوَّلَ عَنْ ذَلِكَ. وَيقالُ أَيْضًا: قَلَبَ فُلَانٌ مِجَنَّهُ: إِذا أَسْقَطَ الحَيَاءَ، وَفَعَلَ مَا شَاءَ، وَقلَبَ مِجَنَّهُ: مَلَكَ أَمْرَهُ وَاسْتَبَدَّ بِهِ، وِمِنْهُ قوْلُ الفَرَزْدَقِ:
كَيْفَ تَرَاني قَالِبًا مِجَنِّي؟ .................... أَقْلِبُ أَمْرِي ظَهْرَهُ لِلْبَطْنِ
والجُنَّةُ: مَا وَارَاكَ مِنَ السِّلَاحِ، وَاسْتَتَرْتَ بِهِ. وَالْجُنَّةُ أَيْضًا السُّتْرَةُ، وَالجَمْعُ: جُنَنٌ. وَالجُنَّةُ الوِقايةُ، لِقولِهِ ـ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ: ((الصَّوْمُ جُنَّةٌ)). أَيْ: وِقايةٌ لِأَنَّهُ يَقِي الصَّائمَ مَا يُؤْذِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وفِي حَدِيثٍ آخَرَ قالَ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((الإمامُ جُنَّةٌ)) لِأَنَّهُ يَقِي مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ الزَّلَلَ وَالسَّهْوَ، وَالاجْتِنانُ الاسْتِتارُ، وَالمَجَنَّةُ مَوْضِعٌ يُسْتَتَرُ فِيهِ، ومنهُ سُمِّيَتِ الأَرضُ الكثيفةُ الأشْجارِ، المُتشابِكَةِ الغصونِ: جَنَّةً لِأَنَّها تَسْتُرُ مِنْ يَدْخُلُ فيها، والجَمْعُ جِنَانٌ.
وَالجِنَّةُ: طائفُ الجِنِّ، وذَهَابُ العَقْلِ، قال ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ سَبَأٍ: {أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} الآيةَ: 8. يُقَالُ: جُنَّ جَنًّا، وَجُنُونًا، واسْتُجِنَّ، ومنهُ قَولُ مُلَيحٍ الهُذَليِّ:
فَلَمْ أَرَ مِثْلي يُسْتَجَنُّ صَبَابَةً ......... مِنَ البَيْنِ أَوْ يَبْكي إِلَى غَيْرِ وَاصِلِ
ويقولونَ: تَجَنَّنَ فلانٌ عَلَى فلانٍ، وَتَجَانَّ، وَتَجَانَنَ عليْهِ: إِذَا أَرَاهُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ.
وقدْ ذكَرَ ـ تَعَالَى، النَّخيلَ والأَعْنَابِ دونَ غيرِها مِنَ الأشجارِ المُثمِرةِ، لعمومِ نَفْعِهَا وَكَثْرَتِها فِي جَزيرَةِ العَرَبِ مَهْبطِ الوَحِيِ، وجاءِ بالجَمعِ فيهِمَا دُونَ الإفْرادِ لِتَنَوُّعِهِما، وكَثْرَةِ أَصْنافِهِما، واللهُ أَعَلمُ.
قَوْلُهُ: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أيْ: وَلَكُمْ في الجَنَّةِ "فَوَاكِهُ" كثيرَةٌ ليسَ لَهَا عَدٌّ ولا حَدٌّ ولا حَصْرٌ، وهي مُتاحةٌ لكمْ في جَمْعِ الأَوْقاتِ، لا تنتهي ولا تُحْجَبُ ولا تُمنعُ، كما قالَ مِنْ سورةِ الواقعةِ: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} الآيتانِ: (32 ـ 33)، وَ "فَواكِهُ" مِنْ "فَكِهَ" فَهُوَ "فَاكِهٌ" إِذَا أَكَلَ الفَاكِهَةَ، والفَاكِهُ ـ أَيْضًا، هُوً مَنْ عِنْدَهُ فَاكِهَةٌ، وكِلَاهُمَا عَلَى النَّسَبِ. وَقيلَ: الفَاكِهُ الَّذي كَثُرَتْ فاكِهَتُهُ، وَالفَكِهُ الَّذي يَنَالُ مِنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ ويهزَأُ بِهِمْ، والفَاكِهَانِيُّ: هُوَ بائِعُ الفاكِهةِ.
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَا يُقَالُ لِبَائِعِ الفَاكِهَةِ "فَكَّاهٌ" كَمَا يُقالُ: "لَبَّانٌ" وَ "نَبَّالٌ" لِأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ إِنَّمَا هُوَ سَمَاعِيٌّ لَا اطِّرادِيٌّ.
وَفَكَّهَ القَوْمَ بِالْفَاكِهَةِ: أَتَاهُمْ بِهَا، والحَلْواءُ: فَاكِهَةٌ أَيْضًا إِنَّما عَلَى التَّشْبِيهِ بِهَا، لأَنَّها تُؤكَلُ أَيضًا قبلَ وَجْبَةِ الطَّعامِ أَوْ بعدَها.
وفَكَّهَهُم بمُلَحِ الكَلَامِ: أَطْرَفَهُمْ بالحَديثِ العَذِبِ، فَهُوَ فكِهٌ وَفَكيهٌ والجمعُ: فَكِهونَ وفاكهونَ، والفَكِهُ الذي يُحَدِّث أَصحابَه ويُضْحِكُهم وَقالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ يس: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} الآيةَ: 55، وقالَ مِنْ سورةِ الدُّخانِ: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} الآيَةَ: 27، أَي ناعمينَ، وقالَ مِنْ سُورةِ الطُّورِ: {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} الآيةَ: 18. أَيْ: ناعِمِينَ مُعْجَبَينَ بِمَا هُمْ فِيهِ، وَمَنْ قرَأَ فَكِهينَ: فالمعنى: فَرِحِين. وَهِيَ فَكِهَةٌ وفَكِيهَةٌ، وَالجَمْعُ فَكِهَاتٌ وَفَكِيهَاتٌ. وَالْمَصْدَرُ الفَكاهَةُ. وَالفَكَاهَةُ أَيْضًا مَصْدَرُ فَكِهَ فَهُوَ فَكِهٌ وَفاكِهٌ. وَهُوَ الطَيِّبُ النَّفْسُ المَزَّاحُ، وَفِي حَديثِ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، قالَ: كانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ مَعَ صَبِيٍّ. أخرجَهُ الطَبِرانيُّ في الأوسَطِ، والبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائلِ النُّبوَّةِ، وابنُ السني في عمل اليومِ واللَّيْلَةِ. وَمِنْ فٌكَاهَتِهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، ما جاءَ في الصَّحيحيْنِ قولُهُ لِصَبيٍّ كانَ عِنْدَهُ طَيْرٌ فَنَفَقَ: ((يا أَبَا عُمَيْر، مَا فَعَلَ النُّغَيْر؟))، مُواسَاةً لَهُ وَتَسْلِيَةً. وَأَخْرجَ ابْنُ أبي شَيْبةَ في مُصنَّفِهِ: (6/89)، عَنْ ثابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ، قالَ: كانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ إِذَا خَلَا مَعَ أَهْلِهِ، وَأَرْصَنِهِمْ إِذَا جَلَسَ مَعَ القَوْمِ. وَمِنْ ذلكَ قولُهُ ـ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((أَربعٌ لَيْسَ غِيبَتُهُم نَّ بِغِيبَةٍ)). وَعَدَّ مِنْهُمُ المُتَفَكِّهُينَ بِالأُمَّهَاتِ، وَهُمُ الَّذينَ يَشْتُمُونَهُنَّ مُمَازِحِينَ.
وَتَفَكَّهَ بِالشَّيْءِ: تَمَتَّعَ بِهِ. وتَفَكَّهَ بِفُلانٍ اغْتابَهُ، وَنَالَ مِنْهُ، وفَكِهَ مِنْ كَذَا، وَتَفَكَّهَ عَجِبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الواقعةِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} الآياتِ: (63 ـ 67)، أَيْ: تتَعجَّبُونَ مِمَّا نَزَلَ بِكُمْ فِي زَرْعِكُمْ.
وَالفاكِهَةُ مَعْروفَةٌ ومَعْرُوفَةٌ أَصْنافُها وَأَجْنَاسُهَا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَقَالَ بَعْضُهم: كُلُّ شَيْءٍ سُمِّيَ في القُرآنِ الكَريمِ مِنَ الثِّمارِ نَحْوَ النَّخلِ وَالعِنَبِ والرُّمَّانِ وَغَيْرِهِمَا فَاكِهَةٌ، وَإِنَّمَا كُرِّرَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الرَّحمَنِ: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} الآيةَ: 68، فَخَصَّصَ بعد أَنْ عمَّمَ لِتَفْضِيلِ النَّخْلِ وَالرُّمَّانِ عَلى سَائِرِ الفَوَاكِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الأحزاب: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ} الآيةَ: 7، فَإنَّما ذَكَرَ هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءَ باسْمِهِمْ لِتَفْضِيلِهم عَلَى سائرِ النَّبِيِّينَ باعتبارهم أُلي العزمِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وهمْ داخلونَ فيهم ومَحسوبونَ مِنْ عِدادِهِم، وَلَمْ يَخْرُجُوا مِنْهُمْ.
وقالَ آخرونَ: إِنَّنا لَا نُسَمِّي ما كُرِّرَ كالنَّخْلَ والعِنَبِ وَالرُّمَّانَ فَاكِهَةً، وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا حَلَفَ أَن لَّا يَأْكُلَ فَاكِهَةً، فَأَكَلَ تمرًا عِنَبًا وَرُمّانًا، لَمْ يَحْنَثْ بيمينِهِ، وَلَمْ يَتَعارضَ ذلكَ مَعَ قَسَمِهِ، والصَّحيحُ الأَوَّلُ ـ كَمَا هو ظاهِرٌ. فقد قَالَ الأَزْهَرِيُّ: وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنَ العَرَبِ قَالَ إِنَّ النَّخِيلَ وَالكُرُومَ ثِمارُها لَيْسَتْ مِنَ الفَاكِهَةِ، وَإِنَّمَا شَذَّ قَوْلُ النُّعْمَانِ بْنِ ثابِتٍ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ عَنْ أَقاويلِ جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ، لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِكَلَامِ العَرَبِ، وَعِلْمِ اللَّغَةِ وتأْويلِ القُرآنِ العَرَبِيِّ المُبِينِ. وَالعَرَبُ تَذْكُرُ الأَشْيَاءَ جُمْلَةً، ثُمَّ تَخُصُّ مِنْهَا شَيْئًا بِالتَّسْمِيَةِ تَنبيهًا عَلَى فَضْلٍ فِيهِ، قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى، مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْريلَ وَمِيكالَ، فَمَنْ قَالَ إِنَّ جِبْريلَ ومِيكالَ لَيْسَا مِنَ المَلَائِكَةِ لِإفْرادِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، إِيَّاهُمَا بِالتَّسْمِيَةِ، بَعْدَ ذِكْرِ المَلَائِكَةِ جُمْلَةً، فَهُوَ كافِرٌ لِأَنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ في كتابِهِ العزيزِ وَبَيَّنَه.
وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ وَالرُّمانِ لَيْسَ فَاكِهَةً لِإِفْرادِ اللهِ ـ عزَّ وجَلَّ، إِيَّاهُمَا بِالتَّسْمِيَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الفَاكِهَةِ جُمْلَةً، فَهُوَ جاهِلٌ، وَهُوَ خِلَافُ المَعْقُولِ، وَخِلَافُ لُغَةِ العَرَبِ.
قولُهُ تَعَالى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الفاءُ: للعَطْفِ والتَعقيب. و "أنشأنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "لَكُمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْشَأْنَا"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُسْتترٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ تَذْكيرِ الجَمْعِ. و "بِهِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْشَأْنَا" أَيْضًا، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "جَنَّاتٍ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الكَسْرُ عِوَضًا عَنِ الفتْحِ لأَنَّهُ جمعُ المُنَّثِ السَّالمُ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "جَنَّاتٍ"، وَ "نَخِيلٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "أَعْنَابٍ" مَعْطُوفٌ عَلَى "نَخِيلٍ" وَلَهُ مِثْلُ إعْرابِهِ. وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {أَسْكَنَّاهُ} مِنَ الآيةِ التي قبْلَها فَلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} لَكُمْ: اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ، مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمِ، وَكَافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "فِيهَا" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ ضَمِيرِ المُخَاطَبِينَ، وَ "هَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "فَوَاكِهُ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، ولمْ ينونْ لكونِهِ على وزْنِ مَساجِد. و "كَثِيرَةٌ" صِفَةٌ لِـ "فَوَاكِهُ" مرفوعَةٌ مثلُها، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، صِفَةً ثَانِيَةً لِـ "جَنَّاتٍ"، أَوْ على الحالِ مِنْهَا لِوَصْفِهَا بِالجَارِّ وَالْمَجْرُورَ.
قَوْلُهُ: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} الواوُ: عَاطِفَةٌ. و "منها" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَأْكُلُونَ"، وَ "هَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "تَأْكُلُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ".