الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 35
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} اسْتِفْهَامٌ إِنْكاريٌّ بِمَعْنَى التَّوقِيفِ عَلى جِهَةِ الاسْتِبْعَادِ، وَبِمَعْنَى الهُزْءِ بِهَذَا الْوَعْدِ الذي تَوَعَّدَهمْ بِوقوعِهِ أَيْضًا. ولِتَقْريرِ مَا قَبْلِهِ مِنْ زَجْرِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ نَبِيِّهِم صالحٍ، أَوْ هُودٍ ـ عَلَى نَبِيِّنا وَعَلَيْهِما الصَّلاةُ السَّلامُ، بِإِنْكارِ وُقُوعِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلى الإِيمانِ بِهِ وَاسْتِبْعَادِ وُقوعِهِ.
قولُهُ: {وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا} أَيْ: إِذَا تَحَوَّلَتْ أَجْسادُكُمْ في القُبورِ إِلَى تُرابٍ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَفَنَاءِ أَجْسَامِكُمْ وَتَفَتُّتِ عِظامِكُم. فقَدِ انْتَقَلوا مِنْ تَكْذِيبِ نَبِيِّهِم ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فِي دَعْوَى الإرْسَالِ مِنَ اللهِ ـ تَعَالى، إِلَى تَكْذِيبِهِ فِيما أُرْسِلَ بِهِ، مِنْ إخْبارٍ بعودَةٍ ثانيةٍ إلى حياةٍ أُخْرَى.
قولُهُ: {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} أَيْ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكم مُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً مَرَّةً أُخْرى للحِسابِ الجَزاءِ، وَمِنْ ثُمَّ الثوابِ أَوْ العقابِ؟!.
قوْلُهُ تَعَالَى: {أَيَعِدُكُمْ} الهَمْزَةُ: لِلاسْتِفْهامِ الإِنْكارِيِّ. وَ "يَعِدُكُمْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فِيِهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى {بَشَرًا} مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها، وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ، وَالمِيمُ عَلَامَةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ {قالَ} عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَأْنَفَةً، مَسُوقَةً لِتَقْريرِ مَا قَبْلِهَا.
قوْلُهُ: {أَنَّكُمْ إِذَا} أَنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، والميمُ عَلامَةُ جَمْعِ المُذكَّرِ. و "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، مُجَرَّدٌ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، مبنيٌّ على السُّكونِ فَي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "إِنَّ" وهو قولُهُ: "مُخْرَجُونَ". وجملةُ "أَنَّ" مَعَ اسْمها وخبرِها في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّها مَفْعُولُ "يَعِدُ" الثاني، والتَّقْديرُ: أَيَعِدُكُمْ إِخْرَاجَكُمْ مِنَ القُبُورِ وَقْتَ مَوْتِكُمْ، وَكَوْنِكُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا.
قولُهُ: {مِتُّمْ} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وَتَاءُ الفَاعِلِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والميمُ لتَذْكيرِ الجَمعِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِإِضَافَةِ "إِذَا" إِلَيْهَا.
قولُهُ: {وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "كُنْتُمْ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وَتَاءُ الفَاعِلِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كانَ"، وَالْمِيمُ لِتَذْكيرِ الجَمعِ. و "تُرَابًا" خَبَرُ "كانَ مرفوعٌ بِهَا. وَ "عِظَامًا" مَعْطُوفٌ عَلَى "تُرابًا" مَنْصُوبٌ مِثْلُهُ. وَالجُمْلَةُ هَذِهِ مِن "كانَ" واسْمِها وخَبَرِها معطوفةٌ على جملةِ "مُتُّمْ" على كونِها في مَحَلِّ الجَرِّ بِإِضَافَةِ "إِذَا" إِلَيْهَا.
قولُهُ: {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} أَنَّكُمْ: هُوَ تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِـ "أَنَّكُمْ" الأُولَى، فَقَدْ أَكَّدَ بِهَا لَمَّا طَالَ الفَصْلُ بَيْنَ اسْمِ "أَنَّ"، وَهُوَ الكَافُ ضَمِيرُ المُخاطَبِينَ، وَخَبَرِهَا، وَهُوَ "مُخْرَجُون". وَ "مُخْرَجُون" خَبَرُ "أَنَّ" الأُولَى، مَرْفوعٌ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ الواوُ، لِأَنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، وَالنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، وِهُوَ العامِلُ في "إِذَا". وَإِلى هَذَا ذَهَبَ الجَرْمِيُّ، وأَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُّ، وَالفَرَّاءُ.
وَثِمَّةَ وَجْهٌ ثانٍ في إِعْرابِهَا وَهُوَ أَنَّ "أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ" مُؤَوَّلٌ بِمَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَذَلِكَ الفِعْلُ المَحْذُوفُ هُوَ جَوَابُ "إِذَا" الشَّرْطِيَّةِ، وَ "إِذَا" الشَرْطِيَّةُ وَجَوابُها المُقَدَّرُ خَبَرٌ لِـ "أَنَّكم" الأُولَى، والتقَّديرُ: يَحْدُثُ أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ.
وهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالثٌ فِي إِعْرابِها، وَهُوَ أَنَّ اسْمَ "أَنَّ" الأُولَى مُضافٌ لِضَمِيرِ الخِطَابِ، وَقَدْ حُذِفَ وَأُقِيمَ المُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامَهُ، وَالْخَبَرُ هوَ قَوْلُهُ: "إِذَا مِتٌّمْ"، وَ "أَنَّ" مِنْ قولِهِ: "أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ" تَكْريرٌ لِـ "أَنَّ" الأُولَى تَأْكِيدًا لها وَدَلَالَةً عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِخْرَاجَكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ.
وَقِيلَ هُوَ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ هَذَا الفِعْلَ المُقَدَّرَ خَبَرٌ لِـ "أَنَّ" الأُولَى، وَهُوَ العامِلُ فِي "إِذَا".
وقيلَ: بِأَنَّ خَبَرَ الأُولى مَحْذوفٌ لِدَلَالَةِ خَبَرِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهِ، والتقديرُ: أَنَّكم تُبْعَثُونَ، وَهُوَ العامِلُ فِي الظَّرْفِ، وَ "أَنَّ" الثانِيَةُ وَمَا فِي حَيِّزِها بَدَلٌ مِنَ "أَنَّ" الأُولَى، وهوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ.
أَخيرًا قيلَ: بأَنَّ جُمْلَةَ "أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ" مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ الظَّرْفُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ "أَنَّكُم" الأُولَى، وَالتَّقْديرُ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِخْرَاجُكُمْ كَائنٌ، أَوْ مُسْتَقِرٌ، وَقْتَ مَوْتِكِمْ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ العامِلُ فِي "إِذَا" هُوَ الخَبَرُ "مُخْرَجُون" عَلَى كُلِّ قَوْلٍ؛ لِأَنَّ مَا فِي حَيِّزِ "أَنَّ" لَا يَعْمَلُ فِيما قَبْلَهَا، وَأَيْضًا فلَا يَعْمَلُ فِيهَا قولُهُ "مِتُّم" لِأَنَّهُ مُضافٌ إِلَيْهِ، وَ "أَنَّكم" وَمَا فِي حَيِّزِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ أَوْ جَرٍّ بَعْدَ حَذْفِ الحَرْفِ، إِذِ الأَصْلُ: أَيَعِدُكُمْ بِأَنَّكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ لَّا يُقَدَّرَ حَرْفُ جَرٍّ، فَيَكونُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ فَقَط نَحْوَ: وَعَدْتُ زَيْدًا خَيْرًا.
قَرَأَ العامَّةُ: {أَنَّكُمْ إِذَا مُتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} فَنُصِبَ الأَوَّلُ بِتَقْدِيرِ الْبَاءِ أَيْ: "بِأَنَّكُمْ"، وَأَمَّا "أَنَّكُم" الثَّانِيَةُ فَلِلتَّأْكِيدِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ التَّوبةِ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارُ جَهَنَّم} الآيَةَ: 63. وَقَرَأَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: {أَيَعِدُكُمْ إِذَا مُتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}، فَحَذَفَ "أَنَّكُمْ" الأُولَى.
قرأَ العامَّةُ: {أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} بِكَسْرِ المِيمِ، وهوَ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ. وَقَرَأَ حفصٌ وغيرُهُ "مُتَّمْ" بِضَمِّهَا.