الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 74
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} التَّوْكيدُ هُنَا بـ "إنَّ" واللامِ المُزَحلَقَةِ ـ كَالْتَّوْكيدِ فِي الآيةِ الَّتي قبلَها، مَسُوقٌ لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُنْكِرِينَ، الَّذينَ اسْتَنْكَرُوا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكَذَّبوهُ بما جاءَهُمْ بِهِ مِنْ عنْدِ اللهِ مولاهُمُ الحقّ.
وَجاءَ بالاسْمِ المَوصولِ "الذينَ" مَعَ صِلَتِهِ "لا يُؤْمِنُونَ" فَعَدَلَ عَنْ القَوْلِ: وَإِنَّهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ، للإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ بِسَبَبِ تَنَكُّبِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ مَا تُنْبِئُ بِهِ الصِّلَةُ وَهُوَ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ بِالْيومِ الآخِرِ.
وقدْ خُصُّ الإيمانُ باليومِ الآخِرِ بالذِّكْرِ دونَ باقي الأُمُورِ المطلوبِ الإيمانُ بها، لأنَّهُمْ كانوا يؤمنونَ بوجودِ اللهِ ـ تَعَالَى، الخالِقِ، إنَّما كانوا لا يُصَدِّقونَ قضِيَّةَ الإحياءِ مِنْ جديدٍ لِأَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ:
الأوَّلُ: أَنَّهُمْ كانوا يَتَصَوَّرونَ ذلكَ أَمْرًا مُسْتَحيلًا، فكيفَ يعودُ الإنْسانُ كما كانَ بعدَ أَنْ يأكُلَ الدُّودُ لحمَهُ، ويتَفَتَّتُ عَظْمُهُ ويتفرَّقُ وتتلاشى ذَرَّاتُهُ، ولذلكَ جاءَ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلّمَ، أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَفِي يَدِهِ عَظْمٌ بالٍ، ففركَهُ فصارَ رمادًا، فذرَّهُ في الهواءِ وَقالَ: كَيْفَ يستَطيعُ رَبُّكَ يا مُحَمَّدُ أَنْ يعيدَ هَذا العظْمَ كما كانَ ويعيدَ صاحبَهُ مخلوقًا سَويًا كما كانَ أَوَّلَ مَرَّةِ؟ فأَنزلَ اللهُ قولَهُ ـ تعالى، في آخِرِ سورةِ يَس: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الآياتِ: (77 ـ 83).
أَمَّا الأمْرُ الثاني الذي يجعلُهُم يَتَعَامُونَ عَنْ هذِه الحقيقةِ، ويردُّونها ويكَذِّبونَ بها، هو أَنَّ الإيمانَ بها سيمنعُهم مِنْ ظلمِ الضُّعفاءِ واستغلالِهِم، وأكلِ حقوقهِم، وسَيُنَغِّصُ عليهِمُ استرسالَهُمْ مَعَ أهوائِهِم وشهواتِهِم، والتمَتُّعِ بملاذِهِمُ الدنيويةِ، لأَنَّ الإيمانَ بحياتٍ أُخْرَى يحاسَبُ فيها المَرْءُ على ما قدَّمَ مِنْ عَمَلٍ في الحياةِ الدُّنا، ويَنَالُ جزاءَهُ، يجعلُهُ يضبطُ إيقاعَ حياتِهِ ويحولُ بينَهُ وبينَ شهَواتِهِ وملذّاتِهِ.
قوْلُهُ: {عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} الصِّراط: تقدَّمَ الكلامُ عَنْها في تَفْسِيرِ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، والمُرادُ بِـ "الصِّراطِ" هُنَا: الحقُّ. فَقد أَخْرَجَ عَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ، عَن مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَإِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ" قَالَ: عَن الْحَقِّ عَادِلُونَ.
وَ "نَاكِبُونَ": مَائِلُونَ.، فهوَ مِنَ النُّكُوبِ أَوِ النَّكْبُ: وَمَعْنَاهُ العُدُولُ وَالْمَيْلُ. وَمِنْهُ "النَّكْباءُ" وهِيَ رِيحٌ بَيْنَ رِيْحَيْنِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعُدُولِهَا عَنِ المَهَابِّ المُعْتَادَةِ، ويقولوُنَ: نَكَبَتْ حَوَدِاثُ الدَّهْرِ، أَيْ: هَبَّتْ هُبَوبَ النَّكْبَاءِ، وَالأَنْكَبُ المَائِلُ المَنْكِبِ. وَالمَنْكِبُ: مُجْتَمَعُ مَا بَيْنَ العَضُدِ وَالكَتِفِ. ويقولونَ أَيْضًا: لِفُلَانٍ نِكابَةٌ فِي قَوْمِهِ، أَيْ: نِقابَةٌ فَيُشْبِهُ أَنْ تَكونَ الكافُ بَدَلًا مِنَ القَافِ. وَيُقالُ: نَكَبَ وَنَكَّبَ مُخَفَّفًا ومُثَقلًا.
قولُهُ تَعَالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} الواوُ: للعَطْفِ. و "إِنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوكيدِ. و "الَّذِينَ" اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إنَّ"، و "لَا" نافيةٌ، و "يُؤْمِنُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ "الذينَ" فلا مَحلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "بِالْآخِرَةِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُؤْمِنُونَ"، و "الْآخِرَةِ" اسمٌ مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "عَنِ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "نَاكِبُونُ"، وَلَا تَمْنَعُ لامُ الابْتِدَاءِ مِنْ ذَلِكَ. وَ "الصِّرَاطِ" اسْمٌ مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِ. و "لَنَاكِبُونَ" اللَّامُ: هِيَ المُزَحْلَقَةُ للتَّوكيدِ (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ). و "نَاكِبُونَ" خَبَرُ "إِنَّ" مَرْفوعٌ بِهَا، وعلامةُ رَفْعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المفُردِ، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مِنِ اسْمِها وخبرِها مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "إِنَّ" مِنَ الآيةِ الَّتِي قبلَها، عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.