الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 68
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} تَفْرِيعٌ عَلَى فولِهِ السَّابِقِ في الآيَةِ: 63، وما بعدَها: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا ..} إِلَى قَوْلِهِ {سامِرًا تَهْجُرُونَ} الْآيَةَ: 67. وَتَعْجِيبٌ مِنْ حَالِ هَؤُلاءِ المُشْركينَ، مِنَ النُّكُوصِ عَلَى أَعْقابِهِمْ عنْدَ سَمَاعِ آياتِ القُرْآنِ الكَريمِ، والاسْتِكْبَارِ عَلَى الحقِّ وَالْهَجْرِ حتَّى مَنَعَهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَتَدَبَّرُوا مَعَانِي آياتِ اللهِ البَيِّناتِ الَّتِي تُتْلَى عَلَيْهِم، وَمَا فِيها مِنْ وُجُوهٍ الإِعْجَازِ، وَالإِخْبَارِ عَنِ المُغَيَّباتِ، وَمَا تحملُهُ لَهُمْ مِنْ خيرَيِ الدُّنيا والآخِرةِ، فَيُؤْمِنُوا بِرَبِّهم ويسْلموا لَهُ. فإِنَّهُمْ لَوْ أَنْعَمُوا النَّظَرَ، وَأَعْمَلوا الفِكْر لأَبْصَروا الطريقَ القويمَ والصِّراطَ المُسْتقيمَ، وانْتَفى عَنْ عقولِهِمْ وَقُلوبِهِمْ مَا فِيهَا مِنِ اسْتِعْجَامٍ وَاسْتَهْجَانٍ وَاسْتِغْرابٍ وَإِشْكَالٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ": إِذًا وَالله ِكَانُوا يَجِدُونَ فِي الْقُرْآنِ زَاجِرًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، لَو تَدَبَّرَهُ الْقَوْمُ وَعَقَلُوهُ.
قولُهُ: {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} اسْتِفْهَامٌ تعجيبيٌّ إنكارِيٌّ آخَرُ عَنْ سَبَبِ اسْتِمْرَارِهمْ في الاعْتِرَاضِ، وبقاءِ قُلُوبِهِمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ أَمْرِرِهِ إِلَى أَنْ يَحِينَ الأَجَلُ ويَحِلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ الْمَوْعُودُ. وَفي ذِلكَ تَخْطِئَةٌ لهُمْ عَلى طَريقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، لِأَنَّ اتِّضَاحَ الطَّريقِ الخَاطَئِةِ الَّتي يسيرونَ عليها يَسْتَلْزِمُ الشَّكَّ فِي أَنْ يَصْدُرَ سُلوكُهُ عَنِ عاقِلٍ، ولذلكَ فَقدِ اقْتَضِى الأَمْرُ الشَّكَّ وَالسُّؤَالَ إِنْ كانَوا مِنَ الْعُقَلَاءِ، لأَنَّ مِثلَ هَذَا السلوكِ لا يكونُ مِنْ عاقلٍ.
فَالآيةُ الكَريمةُ تُعدِّدُ أَخطاءَهُمُ التي وقعوا فيها، وَضَلَالِاتِهِمُ الَّتِي اسْتَمَرُّوا عليها، وَفي ذلكَ احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ، وَقَطْعٌ لِمَعْذِرَتِهِمْ، وَتنبيهٌ إِلَى أَنَّ صِفَاتِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، كُلَّهَا دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِهِ. وَأَنَّ الَّذي جاءَهُمْ بِهِ لَمْ يَجِئْ آباءَهُمُ الأَوَّلِينَ؛ فيكونُ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، في الآيةَ: 6، مِنْ سُورةِ يَس: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فهُمْ غَافِلُونَ}.
قولُهُ تَعَالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} أفلم: الهَمْزَةُ: حَرْفٌ مُسْتَعْمَلُ هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ الإِنْكَارِيِّ التَعجيبيِّ، وهي دَاخِلَةٌ عَلى مَحْذوفٍ، وَالفاءُ: عَاطِفَةٌ عَلى ذَلِكَ الْمَحْذوفٍ، وَالتَّقْديرُ: أَفَعَلَ الكُفَّارُ مَا فَعَلُوا مِنَ النُّكوصِ والاسْتِكْبَارِ وَالْهَجْرٍ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا القولَ؟!. و "لم" حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ وقلْبٍ. و "يَدَّبَّرُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بِهَا، وَعَلامَةُ جزْمِهِ حَذِفُ النُّون مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، والأَلِفُ للتَّفريقِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَأَصْلُ هَذَا الفعلِ "يَتَدَبَّرُوا" فأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ. و "الْقَوْلَ" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تَلْكَ الجملةِ المَحْذُوفَةِ، على كونِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَمْ جَاءَهُمْ مَا} أَمْ: هي المُنقطِعُ العَاطِفَةُ بِمَعْنَى "بَلْ" الانْتِقَالِيَّةِ وَهَمْزَةِ الاسْتِفْهَامِ التَّقْريريِّ؛ أَيْ: بَلْ أَجَاءَهُمْ. و "جَاءَهُمْ" جاءَ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ، وَ "هُمْ" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ. و "مَا" مَوْصُولَةٌ بمعنى "الَّذي"، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةُ، مبنيَّةٌ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ على الفاعِلِيَّةِ بِـ "جاءَ". والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يَدَّبَّرُوا" على كونِها جملةً مَعطوفةً على جملةٍ مُسْتَأْنفةٍ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} لَمْ: حرفُ نفيٍ وجَزْمٍ وقلبٍ. و "يَأْتِ" فعلٌ مُضارعٌ مُعْتَلُّ الآخِرِ بالياءِ، مَجْزُومٌ بـ "لم"، وَعَلَاَمةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ مِنْ آخِرِهِ. وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيِهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مَا". و "آبَاءَهُمُ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، مُضافٌ، و "هُمْ" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفعولِيَّةِ بِهِ. و "الْأَوَّلِينَ" صِفَةٌ لِـ "آبَاءَهُمُ" منصوبةٌ مِثلُها، وعَلامةُ نَصْبِها الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَا" المَوْصِولَةِ لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في مَحَلِّ الرَّفعِ إِنْ كانَتْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةً، وَالعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ ضَمِيرُ الفاعِلِ.