وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ
(3)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} اللَّغْوُ في اللُّغَةِ: هوَ الحديثُ الباطِلُ، وهوَ مِنْ قولِهِم: لَغَا فُلَانٌ يَلْغو لَغْوًا، إِذَا قالَ قولًا بَاطِلًا. وَمِنْهُ الَّلغَوُ بِالْيَمِينِ، كَمَا قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى، في الآيَةِ: 125، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم}.
وَاللَّغْوُ: هوَ نُبَاحُ الكَلابِ أَيْضًا، وَمِنْ ذَلِكَ ما جاءَ في قَوْلِ الشَّاعِرِ ناهِضِ بْنِ ثُومَةَ:
رَغِبْنَا عَنْ دِمَاءِ بَنِي قُرَيْعٍ .................... إِلَى القَلْعَيْنِ إنَّهُمَا اللُّبابُ
وقُلْنا للدَّلِيلِ أَقِمْ إلَيْهِم ....................... فَلَا تَلْغَى لِغَيْرِهِمُ كِلَابُ
أَيْ: لَا تَجْعَلْ كَلَابَ غَيْرِهِمْ تَنْبَحُ. وَ "لَغَا" و "لَغِيَ": بِالْكَسْرِ يَلْغْى لَغًا، بِمَعنَى. ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُ العَجَّاجِ الشَّاعِرِ الرَّاجِزِ:
وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ..................... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّم
وأَلْغَى الشَّيْءَ: أَبْطَلَهُ، وَعليْهِ قَولُ ذِي الرُّمَّةِ:
ويُطْرَحُ بَيْنَهَا المَرْئِيُّ لَغْوًا ................ كَمَا أَلْغَيْتَ في المِئَةِ الحُوَارَا
الحُوارُ: مَا لَا يُعَدُّ مِنْ أَوْلَادِ الإِبِلِ فِي دِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لِصِغَرِهِ. وَاللَّغَا: الصَّوْتُ، ويُقالُ: لَغِيَ بِه يَلْغَى لَغًا، أَيْ: لَهَجَ بِهِ. واللَّاغِيَةُ: اللَغْوُ. قالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الغاشِيَةِ: {لا تَسمَعُ فيها لاغِيَةً} الآيةَ: 11، أَيْ: لا تَسْمعُ في الجَنَّةِ كَلِمَةً ذَاتَ لَغْوٍ. واللَّغْوُ في الأَيْمَانِ: مَا لَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ القَلْبُ. قالَ ـ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَان} الآيةَ: 89، مِنْ سُورَةِ المائدةِ.
وَأَصْلُ اللُغَةِ مِنْ: لُغَيٌ وَلُغَوٌ، والهَاءُ في "لُغَة" للعِوَضِ، وجَمْعُهَا لُغًى، ولُغاتٌ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا لُغَوَيٌّ وليسَ لَغَويٌّ.
وعدَمُ اللَّغْوِ هي الصِّفةُ الثانِيَةُ لِلْمُفْلِحِينَ بَعْدَ الإيمانِ وَالصَّلاةِ، والمُرادُ أنَّهُمْ مُعْرِضُونَ عَنِ البَاطِلِ، وهوَ قولُ عبدِ اللهِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُمَا.
فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَريمةِ: "وَالَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ" قَالَ: عَنِ الْبَاطِلِ.
وَقَريبٌ مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَالَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ" قَالَ: أَتَاهُمْ وَاللهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا وَقَذَهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ.
وَهوَ المَعَاصِي فِيمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَالَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ" قَالَ: عَنِ الْمَعَاصِي.
وكافَأَ اللهُ عبادَهُ بخمرةٍ يَشْرَبونَها في الآخِرةِ فَلَا يَسْمَعُونَ فيها لَغْوًا كما تَفْعَلُ خمرةُ الدُّنيا بشاربيها، قالَ مِنْ سُورَةِ الواقِعَةِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} الآيةَ: 25.
وقد جاءَ النَّهْيُ عَنِ اللَّغْوِ بَعْدَ الصَّلاةِ مُباشَرِةً، لِأَنَّ الصَّلاةَ صِلَةٌ بَيْنَ العَبْدِ وَرَبِّهِ، وَمُنَاجَاةٌ لَهُ، وَحَديثٌ نافعٌ مَعَهُ يذْكُرُهُ المَرْءُ فيهِ، وَيَرْفَعُ إلَيْهِ حَاجَاتِهِ، فَيَدُّعُوهُ وَيَرْجوهُ، بَيْنَمَا اللَّغْوُ انْصِرافُ لُبِّ المَرْءِ عَنْ ربِّهُ وَمَوْلَاهُ، وَانْشِغَالُهُ عَنْهُ ـ سُبْحانَهُ، بِخَلْقِهِ، وَحَديثٌ مَعَهُمْ بِأُمُورٍ إِن لَّمْ يَكُنْ فِيها شَرٌّ وَضُرٌّ، فَلَنْ يكونَ فيها نَفْعٌ أَبَدًا، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا انْشَغَالٌ عَنِ حضْرةِ مَوْلاهُ بِمَا سِوَاهُ.
وَقُدِّمَ الجَارُّ والمَجْرُورُ هُنَا أَيضًا عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِنَفْسِ السَّبَبِ الَّذي ذكَرْناهُ في الآيَةِ الَّتي قَبْلَها، أَيْ: لِزِيَادَةِ الاهْتِمَامِ بِهِ.
وَأُعِيدَ الاسْمُ الْمَوْصُولُ "الَّذينَ" دُونَ الاكْتِفَاءِ بِعَطْفِ جملةِ الصِّلَةِ عَلَى مِثْلِهَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ مِنَ هَذِهِ الصِّفَاتِ كافِيَةٌ لِفَلَاحِ صَاحِبِهَا، فَكيفَ إِذَا اجْتَمَعَتْ فيهِ كُلُّها؟. وحتَّى لَا يَتَوَهَّمَ متوهِّمٌ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ إِلَّا إذا جَمَعَ بَيْنَها جميعًا.
وَفِي الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِلْخَبَرِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ، واللهُ أَعلمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ للجَمْعِ المُذَكَّرِ، مَبْنيٌّ عَلى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ، صِفَةً لِـ {الْمُؤْمِنُونَ} مِنَ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، مَعْطُوفٌ عَلَى المَوْصُولِ الأَوَّلِ، و "هُمْ" ضميرٌ منفصِلٌ لجماعَةِ الغائبينَ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. وَ "عَنِ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ بَعْدَهُ، وَ "اللَّغْو" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَ {مُعْرِضُونَ} خَبَرُ المُبْتَدَأِ، مرفوعٌ وعلامةُ رَفْعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ "الذينَ" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.