الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 77
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} فَتْحُ بَابِ العَذابِ الشَّديدِ عَلَيْهِمْ تَمْثِيلٌ لِمُفَاجَأَتِهِمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْجُوزًا عَنْهُم بَقَوْلِهِ تَعَالَى، في الْآيةِ: 33، مِنْ سُورَةِ الأَنْفَالِ: {وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}، وَذَلِكَ إِكْرامًا للرَّسولِ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. فقد شُبِّهَتْ هَيْئَةُ إِصَابَتِهِمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ أَنْ كَانُ محجوزًا عَنْهُمْ وكانوا فِي سَلَامَةٍ وَعَافِيَةٍ مِنْهُ بِهَيْئَةِ أَنَاسٍ فِي بَيْتٍ حصينٍ مُغْلَقٍ عَلَيْهِمْ، ثَمَّ فُتِحَ عَلَيْهِمْ بَابُ ذَلِكَ الْبَيْتِ ودخَلَهَ عليهِمْ عَدُوٌّ يَكْرَهونَهُ، أَوْ أَنَّ هَيْئَةَ تَسْلِيطِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ شُبِّهَتْ بِهَيْئَةِ فَتْحِ بَابٍ اخْتُزِنَ فِيهِ عَذَابٌ شَدشدٌ، فَلَمَّا فُتِحَ ذلكَ الْبَابُ انْهَالَ عَلَيْهِمْ شديدُ الْعَذَابُ. كَمَا مَثَّلَ الهُْ ـ تَعَالَى، في مكانٍ آخَرَ لِعَذابِهِ بِفَوَرانِ التنُّورِ فقَالَ مِنْ سورةِ هودٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {حَتَّى إِذَا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ} الآيةَ: 40، وَكما تَقَوْلُ: طَفَحَتِ الْكَأْسُ بِأَعْمَالِكَ، تُريدُ بُلُوغَهُ بأعمالِهِ السَّيِّئةِ مَبلَغًا لَا يُمْكِنُ السُّكوتُ عَلَيْهِ.
وَالمُرادُ بالعَذابِ الشَّديدِ، كَما قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ الهُا عنْهُما: هُوَ قَتْلُهُمْ بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ. فَقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْهُ ـ رَضِيَ الهُت عَنْهُ: فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ"، قَالَ: قَدْ مَضَى، كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ.
وقالَهُ ابْنِ جَريْجٍ أَيْضًا ـ رَضِيَ الهُْ عَنْهُ، فَقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْهُ بِأَنَّهُ قالَ: "حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ": يَوْمُ بَدْرٍ.
وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ أَبو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ فِي "مَعَاني القُرْآنِ وَإِعْرَابُهُ" لَهُ: (4/19)، وَصَدَّرَهُ بِقَولِهِ: "قِيلَ"، ثُمَّ قَالَ: السَّيْفُ وَالْقَتْلُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي "المُحَرَّرِ الوجيزِ": (10/388): وَهَذَا القَوْلُ يَرُدُّهُ بِأَنَّ الجَدْبَ الَّذي أَصَابَهُمْ كانَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ.
وَقِيلَ: هُوَ عَذَابُ الهُِ الذي أَعَدَّهُ لَهُمْ في الآخِرَةِ، كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ فَتْحُ بابِ العَذابِ وَوَصْفُهُ بِالشِّدَّةِ. قَالَ عِكْرِمَةُ ـ رَضِيَ الهٍُ تَعَالَى عنْهُ: هُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، عَلَيْهِ مِنَ الْخَزَنَةِ أَرْبَعُ مِئَةِ أَلْفٍ، سُودٌ وُجُوهُهُمْ، كَالِحَةٌ أَنْيَابُهُمْ، وَقَدْ قُلِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، إِذَا بَلَغُوهُ فَتَحَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِمْ.
والمَعْنَى: حَتَّى إِذَا عُذِّبُوا بِنَارِ جَهَنَّمِ أُبْلِسُوا، فهوَ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سورةَ الرُّوم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} الآيةَ: 12، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الزُّخْرُفِ: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} الآيتانِ: (74 و 75). ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ الأنْدَلُسِيُّ في تفسيرِهِ "البحرُ المُحيطُ": (6/416 ـ 417).
وقالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ الهَُ عنْهُ: هُوَ الْقَحْطُ الَّذِي أَصَابَهُمْ حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ مِنَ الْجُوعِ.
فَقدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْهُ ـ رَضِيَ الهُر عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ"، قَالَ: لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ الْجُوعُ، وَمَا قبْلَهَا مِنَ الْقِصَّةِ لَهُمْ أَيْضًا.
وَقَالَهُ مُقَاتِلُ ابْنُ سُلَيْمانَ أَيْضًا ـ رَضِيَ الهُا عنْهُ، قالَ: يَعْنِي الجُوعَ. "تَفْسيرُ مُقاتِلٍ": (2/32 أ).
وهوَ اخْتِيارُ ابْنُ جَريرٍ الطَّبَرِيَّ، في تفسيرِهِ: (18/46). وَقدِ اسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِخَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ الهُر عنهُما، فِي المَجَاعَةِ الَّتي أَصَابَتْ قُرَيْشًا، وَاسْتَظْهَرَهُ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ "البحْرُ المُحيطُ": (6/415).
وَقِيلَ: هُوَ تَوَعُّدٌ بِعَذابٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَقد صَوَّبَ هَذَا القَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ في تفسيرِهِ "المُحَرَّرُ الوجيزُ": (10/389).
وَقِيلَ: المُرادُ فَتْحُ مَكَّةَ. قَالَهُ السُّدِّيُّ ـ رَضِيَ الهُه عَنْهُ. وَالهُن ـ تَعَالَى، أَعْلَمُ بِمُرادِهِ.
قولُهُ: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أَيْ: مُتَحَيِّرُونَ آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وهوَ مِنَ الْإِبْلَاسِ، ويَعْنِي شِدَّةَ الْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ. يُقَالُ: أَبْلَسَ فلانٌ، إِذَا ذَلَّ وَيَئِسَ مِنَ التَّخَلُّصِ ممَّا هُوَ فيهِ، وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلْهَمْزَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهُ فِعْلًا مُجَرَّدًا. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَلَاسِ كَ "سَحَابٍ" وَهُوَ الْمِسْحُ، وَأَنَّ أَصْلَ أَبْلَسَ: أَيْ صَارَ ذَا بَلَاسٍ. وَكَانَ هَذا شِعَارَ مَنْ زَهِدُوا فِي النَّعِيمِ. يُقَالُ: لَبِسَ الْمُسُوحَ، إِذَا تَرَهَّبَ. فمَعْنَى الآيةِ: مَحَنَّاهُمْ بِكُلِّ مِحْنَةٍ مِنَ القَتْلِ، وَالأَسْرِ، والجُّوعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَا رُؤِيَ مِنْهُمْ لِينُ مَقَادَةٍ، وَتَوَجُّهٌ إِلى الإسْلامِ قَطُّ. وَأَكْثُرُهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ إِلى أَنْ يَرَوْا عَذَابَ الآخِرَةِ، فَحِينَئِذٍ يُبْلِسُونَ.
قوْلُهُ تَعَالى: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} حَتَّى: هِيَ هُنَا حَرْفُ ابْتِدَاءٍ وذَلِكَ لِأَنَّها دَخِلَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ ابْتُدِأَ الكلامُ بِهَا. وَقِيلَ: هِيَ الجارَّةُ حَرْفُ غَايةٍ. و "إذا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، فيهِ معنى الشَّرطِ، فهوَ خَافِضٌ لِشَرْطِهِ مَنْصُوبٌ بِجَوَابِهِ، مُتَعَلِّقٌ بِهِ. و "فَتَحْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهَ وَتَعَالَى، و "نَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "عَلَيْهِمْ" عَلَى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "فَتَحْنَا"، و "هم" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "بَابًا" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ. و "ذَا" صِفَةٌ لـ "بَابًا" مَنْصُوبٌ مِثْلُهُ، وعلامةُ نَصْبِهِ الآلِفُ لأَنَصْبِهُ الأَلِفُ لأَنَّهُ مِنَ الأَسْمَاءِ الخَمْسَةِ، وهُوُ مُضافٌ، و "عَذَابٍ" مَجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "شَدِيدٍ" صِفَةٌ لِـ "عَذَابٍ" مَجْرورةٌ مِثْلُهُ، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ، بإِضافَةِ "إِذَا" إِلَيْهَا عَلَى كَوْنِهَا فِعْلٍ شَرْطٍ لَهَا.
قولُهُ: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} إذا: هي الفُجائِيَّةُ، قائِمَةٌ مُقَامَ الفَاءِ الرَّبِطَةِ لِجَوَابِ "إذا". و "هُمْ" ضميرٌ منفصِلٌ مَبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ. و "فِيهِ" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخبَرِ الآتي بَعْدَهُ "مُبْلِسُونَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "مُبْلِسُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفُوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جَوَابُ "إذا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ "إذا" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنَّ جُمْلَةَ "إِذَا" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِـ "حَتَّى"، وهذا إِذَا اعْتَبَرْنَاها حَرْفَ غَايَةٍ وَجَرٍّ مُتَعَلِّقَةً بِـ "اسْتَكَانُوا"، منَ الآيةِ قبلَها وليستْ حرفَ ابتِداءٍ ـ كَمَا سَبَقَ بيانُهُ، وعليْهِ فالتَّقْديرُ: فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ، وَمَا يَتَضَرَّعُونَ إِلَى إِبْلَاسِهِمْ مِنْ رَحْمَتِنَا، وذلكَ وَقْتَ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بابًا ذَا عَذَابٍ شَديدٍ.
قَرَأَ العامَّةُ: {فَتَحْنَا} مخفَّفةً، وَقُرِئَ "فَتَّحْنَا" بِالتَّشْديدِ على المُبالغَةِ مِنْ "فتَحَ، يَفْتَحُ".
قَرَأَ العامَّةُ: {مُبْلِسُوْنَ} بكَسْرِ اللَامِ، وَقَرَأَ أبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وأبو المتوكل، وأبو نهيك، ومعاذ القارىء: "مُبْلَسُوْن" بِفَتْحِها مِنْ أَبْلَسَهُ: إذا أَدْخَلَهُ فِي الإِبْلاسِ.