الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 28
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} أيْ: فإِذا رَكبتَ السَّفينَةَ أَنْتَ ومَنْ مَعَكَ مِنَ المُؤمنينَ، وَمَا حَمَلْتَهُ فِيهَا مِنْ أَنواعِ الحَيَواناتِ، وَاعْتَلِيْتَها، واسْتَقَرَرْتَ عَلى ظَهْرِها، واطْمَأَنَنْتَ إِلَى سَلَامَتِكِ وَنَجَاتِكَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ مِنَ الغَرَقِ بالطُّوفانِ العَظيمِ، الَّذي لمْ يحْدُثُ غيرُهُ مِثْلَهُ فِي تاريخِ الكُرَةِ الأرضِيَّةِ، حَسَبَ ما وَصَلَ إِلَيْنا مِنْ علمٍ، واللهُ تَعَالَى أَعْلَمْ.
وَإِطْلَاقُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ دَاخِلَ السَّفِينَةِ هو مِنَ المَجَازِ المُرْسَلِ بِعِلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الِاسْتِقْرَارِ فِيها دُخُولُها.
وَقدْ أُتِيَ بِحَرْفِ الجَرِّ المُسْتعمَلِ في الاسْتِعْلَاءِ "عَلَى" دُونَ الحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ "في" لِأَنَّهُ هو الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ مَعْنَى الِاعْتِلَاءِ، وذلكِ للإِيذَانِ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الْسَّفينةِ، وفَي هَذا تَرْشِيحٌ لِلْمَجَازِ.
قولُهُ: {فَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ فَاحْمَدِ اللهَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ أَنْ نَجَّاكُمْ مِنَ الْغَرَقِ، وَخَلَّصِكمْ مِنْ أَذَى الكَفَرَةِ الظَّالِمِينَ الَّذينَ كانوا يُؤْذُونَكُمْ بِأَيديهِمْ وَأَلْسِنَتِهِم. وَحَمْدُ اللهِ: الثَّناءُ عليْهِ بالجميلِ. وَهُوَ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمةِ، إِلَّا أَنَّ الشُّكْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا ثَنَاءً عَلى يَدٍ أُولِيتَهَا، بينما الحَمْدُ قَدْ يَكُونُ ابْتِداءً، وَقَدْ يَكونُ شُكْرًا للصَّنِيعِ، فهُوَ في هَذِهِ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ، والحمدُ إِنَّما يَكونُ باللِّسانِ، بَيْنَمَا الشُّكرُ قدْ يكونُ باللِّسَانِ، أَوْ بِالأَرْكانِ، أَو بهِما مَعًا، فهُوَ في هذِهِ أَعَمُّ.
يُعَلِّمُنا رَبُّنا ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، وَاجِبَ الحَمْدِ على النِّعْمةِ، والثَّناءِ عَلَى المُنْعِمِ، وشُكْرِهُ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَهَذَا أَوَّلُ مَا يَجِبُ أَنْ يُقابِلَ بهِ المُؤْمِنُ اليَدَ البَيْضَاءَ الَّتي تَمَتَدُّ إِلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مِنْ الأَخْلاقِ الحَسَنَةِ في الإِنْسانِ، والأَخْلَاقُ الحَسَنَةُ نِعْمَةٌ عُظْمى يمُنُّ اللهُ بها عَلَى مَنْ شاءَ أنْ يُكْرِمَهُ بها مِنْ عبادِهِ، ولذلكَ فقد سَأَلْتُ الله ـ تباركَ وَتَعَالَى، أَنْ يَمُنَّ بِهَا عَلَيَّ فقُلْتُ:
يا مَنْ تَوَدَّدَ بالنُّعْمَى ولا سَبَبٌ ........... إِلَّا افْتِقارِي إلى نَعْمائِهِ سَبَبِي
أَطْلِقْ لِسانيَ بالتَّمْجِيدِ مِنْكَ نَدًى ..... وامْنُنْ علَيَّ بحمدِ العارفِ الأَرِبِ
فالحمدُ والشُّكْرُ نُعْمَى مِنْكَ سابغةٌ .. لَمْ يُؤْتَها غيْرُ أَهْلِ الفَضْلِ والأَدَبِ
شُكْري ثَناءٌ، وشُكْرُ العاملينَ تُقًى ... أَينَ الكلامُ مِنَ الأعمالِ في الرُّتَبِ
بَيْنَمَا سَيِّءُ الخُلُقِ يُقَابِلُ الإِحْسَانَ بِالإِسَاءَةِ، وَالنِّعْمَةَ بِالكُفْرِ والْجُحُودِ، وَرَحِمَ اللهُ أَبَا الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي إِذْ قالَ:
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الكَرِيْمَ مَلَكْتَهُ .......... وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا
فَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيفِ بالعُلَا
مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى
والحُرُّ الكَريمُ هُوَ مَنْ يُديمُ حَمْدَ المنعِمِ وشُكْرَهُ عَلَى نِعْمَتِهِ، ولا يَنَسَاهَا فيكونَ كَمَنْ قالَ اللهُ ـ تَعَالَى، فيهِم: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} الآيةَ: 12، مِنْ سُورةِ يُونُسَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ.
ومِثْلُ هؤلاءِ في النَّاسِ كَثيرٌ، وكثيرٌ جِدًّا، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ العلِيِّ العَظيم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} الفاءُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، أَوْ فَصِيحَةٌ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتَ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ، وَأَرَدْتَ بَيَانَ مَا هُوَ اللَّازمُ لَكَ، فَأَقولُ: إِذَا اسْتَوَيْتَ .. . و "إذا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ، يتضَمَّنُ مَعنى الشَّرطِ، خافضٌ لِشَرْطِهِ مُتَعَلِّقٌ بِجَوَابِهِ. وَ "اسْتَوَيْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعلِ. وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "أَنْتَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مبنيٌّ على الفتْحِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ الفَاعِلِ الذي هُوُ تَاءُ الفاعِلِ. و "وَمَنْ" الواوُ للعَطْفِ، و "مَنْ" اسْمٌ موْصولٌ مبنيُّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ عَطْفًا عَلى تَاءِ الفاعِلِ. و "مَعَكَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِصِلَةِ الاسْمِ المَوْصولِ "مَنْ" وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخطابِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيهِ. و "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اسْتَوَيْت"، و "الْفُلْكِ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. والْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإِضافَةِ "إِذَا" إِلَيْهَا.
قوْلُهُ: {فَقُلِ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "إذا" الشَّرْطِيَّةِ وُجُوبًا، و "قُلْ" فِعْلُ أَمْرٍ مبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ، وَفَاعِلُ مُسْتَتِرٌ فيِهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنتَ) يعودُ على سيِّدِنا نوحٍ عليْهِ السَّلامُ. والجُمْلِةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ جوابُ "إذَا" الشَّرْطِيَّةِ، لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَجُمْلَةُ "إِذَا" الشَّرطيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِجَوابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {الْحَمْدُ للهِ الَّذي} الحمدُ: مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وَ "للهِ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بالخَبَر المُقدَّرِ، وَلَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهِ" مَجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، و "الَّذِي" اسْمٌ مَوْصولٌ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ على كَونِهِ صِفَةً لاسْمِ الجَلَالَةِ "اللهِ". وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قُلْ".
قولُهُ: {نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} نَجَّانَا: "نَجَّا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِها لتعذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌّ فيهِ جوازًا تَقْديرُهُ (هوَ) يعودُ على اللهِ ـ تعالى، و "نَا" ضميرُ جَماعَةِ المُتَكَلِّمينَ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعوليَّةِ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّق بـ "نجَّا"، والقومِ مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "الظَّالمينَ" صفةٌ لـ "القومِ" مجرورَةٌ مِثْلُهُ، وعلامةُ الجَرِّ الياءُ لأنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المفْرَدِ. والجملة الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ "الَّذِي" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.