الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 44
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
قولَهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} بَيَانٌ لاطِّرَادِ سُنَّةِ اللهِ ـ عَزَّ وجلَّ، فِي اسْتِئْصَالِ الْذينَ كَذَّبوا رُسُلَهُ، وَالْمُعَانِدِينَ فِي آيَاتِهِ، دَلَّ عَلَى ذلكَ قَوْلُهُ: "فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضًا". و "تَتْرَى" أَيْ فَرْدًا فَرْدًا، الوَاحِدَ بَعْدَ الوَاحِدِ، وَهُوَ منَ "الوَتْرِ" أَيْ الفَرْدِ. وَلَا يُقَالُ "تَتْرَى" إِلَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ المُتَعَاقِبَةِ فَتَرَاتٌ وَتَقَطُّعٌ. وَمِنْهُ التَّوَاتُرُ وَهُوَ تَتَابُعُ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَهَا فَجَوَاتٌ. أَمَّا إذا كانَ التَّعَاقُبُ دُونِ فَتْرَةٍ فَهُوَ تَدَارُكٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتَرَى" قَالَ: يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: بَعُضَهُمْ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُما، مِثْلَهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} قدْ يكونُ كَذَّبَهُ جُمْهُورُهُمْ وَقدْ يكونُ كَذَّبَهُ جَمِيعُهُمْ. فإنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ، قال: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ...)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ: (1/271، رقم: 2448)، والبُخَارِيُّ: (5/2170، رقم: 5420)، وَمُسْلِمٌ: (1/199، رقم: 220) مِنْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وَتتَمَّتُهُ: ((.. إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقُلْتُ: هَذِهِ أُمَّتِي؟ فَقِيلَ: هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ قِيلَ: انْظُرْ إِلَى هَذَا الْجَانِبِ الْآخَرِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ. ثُمَّ نَهَضَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ، فَخَاضَ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُمْ الَّذِينَ صَحِبُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُمْ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا قَطُّ. وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ تَخُوضُونَ فِيهِ؟ فَأَخْبَرُوهُ بِمَقَالَتِهِمْ، فَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ فَقَالَ: أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: أَنْتَ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَامَ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ)). وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا: التِّرْمِذِيُّ: (4/631، رقم: 2446)، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالنَّسَائِيُّ في الكُبْرَى: (4/378، رَقَمْ: 7604)، وَابْنُ حِبَّانَ: (14/339، رقم: 6430).
وَهذا هو دَأْبُ المُسْتكبرينَ المُعَانِدينَ في آياتِ اللهِ، أَرْبابِ الشَّهَواتِ والأَهْوَاءِ وَالمَصَالِحِ الخاصَّةِ، الذين يُحِبُّونَ السَّيْطَرَةَ، والمالَ، يَجْمَعُونَهُ ولا يُمَيِّزونَ بيْنَ حَلالٍ وَحَرَامٍ، فَتَراهُمْ يبادرونَ إلى تكذيبِ المرْسلينَ بالحق والعدلِ مِنْ ربِّ العالمينَ حفاظًا على سلطتهم وأموالِهِمْ ومكاسبهم، لأَنَّ الرسالات السماويَّةِ كلِّها جاءتْ بالمساواتِ بينَ الإنسانِ وأخيه الإنسان، وتحريم استغلالِ الأَخِ لأخيهِ وظلمَهُ.
قولُهُ: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أَلْحَقْنَا بعضَهم بِبَعضٍ، بالهَلاكِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بعدَها: "وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ"، أَيْ صَيَّرْنَاهُمْ أُحْدُوثَاتٍ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِمَا أَصَابَهُمْ. لِأَنَّهُمْ كلَّهُمْ ظالِمُونَ كافِرُونَ باللهِ ـ تَعَالَى، وَرِسَالاتِهِ، ورُسُلِهِ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِبَادَتِهِمْ.
قولُهُ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} الأَحَادِيثَ: جَمْعُ "حَديث" وَهُوَ شَاذٌّ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ أُحْدُوْثَةٍ كَ: "أُضْحُوكَةِ"، وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يَتَلَهَّى النَّاسُ بِالْحَدِيثِ عَنْهُ. وَوَزْنُ الْأُفْعُولَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ الْأُعْجُوبَةِ وَالْأُسْطُورَةِ. وَإِنَّمَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِالشَّيْءِ الْغَرِيبِ النَّادِرِ مِثْلُهُ. وَلَا يُقَالَ ذَلِكَ إِلَّا فِي الشَّرِّ، وَلَا يُقَالُ فِي الخَيْرِ. قَالهُ الأَخْفشُ، وَقَدْ شَذَّتِ العَرَبُ فِي أُلَيْفاظٍ فَجَمَعُوها عَلى صِيغَةِ "مَفَاعِيلَ" كَ: "أَباطيلَ" وَأَقَاطِيعِ". وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الأَحَادَيثُ اسْمُ جَمْعٍ لِلْحَديثِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَحاديثُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالَ أبو حَيَّانَ: و "أَفَاعِيلَ" لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَةِ اسْمِ الجَمْعِ، وَإِنَّما ذَكَرَهُ أَصْحَابُنا فِيمَا شَذَّ مِنَ الجُمُوعِ كَ: "قَطيعٍ" و "أَقاطِيع"، وَإَذَا كَانَ عَباديدُ قَدْ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَلْفِظُوا لَهُ بِوَاحِدٍ فَأَحْرَى "أَحاديث"، وَقَدْ لُفِظَ لَهُ بِوَاحِدٍ، وَهُوَ "حَديث" فاتَّضَحَ أَنَّهُ جَمُعُ تَكْسِيرٍ لَا اسْمُ جَمْعٍ لِمَا ذَكَرْنَا. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بالهلاكِ، وقد نِيطَ هُنَا بِوَصْفِ أَنَّهُمْ "لَا يُؤْمِنُونَ"، تَنْبِيهًا عَلَى مَذَمَّةِ الْكُفْرِ باللهِ ـ تَعَالى، وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِالمُرْسلينَ تَعْرِيضًا بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وإِنْ كانَ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ـ تَعَالَى، وَرُسُلِهِ ورِسالاتِهِ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ في "قومٍ" تَعُمُّ الجميعَ فِي سِيَاقِ الدُّعَاءِ، والله أعلم.
قولَهُ تَعَالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرَاخٍ، وَ "أَرْسَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ متحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "رُسُلَنَا" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وَهُوَ مُضافٌ، و "نا" ضميرُ التعظيمِ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. وَ "تَتْرَى" الظاهِرُ أَنَّهَ مَنْصُوبٌ عَلى الحَالِ مِنْ "رُسُلَنَا"، وَعَلَامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ على آخِرِهِ للتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلى الأَلِفِ؛ فَهُوَ اسْمٌ مَقْصُورٌ، أَلِفُهُ لِلإِلْحاقِ بِـ "جَعْفَرَ" كَ "أَرْطَى"، وَ "عَلْقَى"، والتَّاءُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنَ الوَاوِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ "وَتْرَى"؛ أَيْ: مُتَعَاقِبِينَ، "مُتَتَابِعِينَ" يتبعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ واقِعٌ مَوْقِعَ الحَالِ كَ "شَبْعَى"، وَ "دَعْوَى"، فَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ، فَيجوزُ أَنَّهُ نَعْتٌ لمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: إِرْسالًا تَتْرَى، أَيْ: مُتَتَابِعِينَ، أَوْ إِرْسَالًا إِثْرَ إِرْسَالٍ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "أَنْشَأْنَا" مِنَ الآيةَ: 42، السَّابقةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا} كُلَّما: اسْمُ شَرْطٍ غَيْرُ جَازِمٍ، مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِالْجَوَابِ الآتي بعدَهَ. و "جَاءَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفتِحِ. و "أُمَّةً" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلى فاعِلِهِ. و "رَسُولُهَا" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، مُؤَخَّرٌ وُجُوبًا لِاتِّصَالِهِ بِضَمِيرِ المَفْعُولِ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، و "ها" ضميرُ المَفْعولِ متَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لِـ "كُلَّما".
قولُهُ: {كَذَّبُوهُ} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ. والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ جَوَابُ "كُلَّما" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ "كُلَّما" الشَّرطيَّةِ هَذِهِ معَ شَرْطِها وَجَوَابِها هي جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فليسَ لَهَا مَحَلَّ مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ لِلتَّعْقيبِ. و "أَتْبَعْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ متحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "بَعْضَهُمْ" مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ منصوبٌ بِهِ. و "بَعْضًا" مَفْعُولُهُ الثَّاني مَنْصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملةِ قولَهِ: "فَكَذَّبُوهُ" على كونِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} الوَاوُ للعَطْفِ، و "جَعَلْنَاهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ متحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهَاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ، والميمُ لتذْكيرِ الجَمعِ. و "أَحَادِيثَ" مَفْعُولُهُ الثاني مَنْصوبٌ بهِ، ولمْ ينوَّنْ مَعَ كونِهِ نَكِرةً لأنَّهُ على وَزْنِ (مَصابيح)، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "فكَذَّبوهُ" عَلَى كونِها معطوفةً عَلَى جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لَا مَحَلٌّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ} الفاءُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "بُعْدًا" مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وُجُوبًا لِنِيَابَتِهِ عَنْهُ، والتَّقْديرُ: بَعُدُوا بُعْدًا، وَهوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَجوزُ أنْ يكونَ التقديرُ: أَوْجَبْنَا بُعْدًا. و "لِقَوْمٍ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "بُعْدًا"، وَلَا يِتَعَلَّقُ بـ "بُعْدًا" لِأَنَّهُ لَا يُحْفَظُ حَذْفُ هَذِهِ الَّلامِ، وَوُصُولُ المَصْدَرِ إِلَى مَجْرُورِهَا البَتَّةَ. و "قَوْمٍ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {لَا يُؤْمِنُونَ} فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً لِـ "قَوْمٍ".
قَرَأَ الجمهورُ: {تَتْرَى} بِأَلِفٍ صَريحَةٍ دُونَ تَنْوينٍ، وهِيَ اللُّغَةُ المَشْهُورَةُ فيها. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جعفرٍ: "تَتْرَىً" بالتَّنْوِينِ وَهِيَ لغَةُ كِنانَةَ وَبِهَا قَرَأَ الإمامُ الشَّافِعِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وفَيها وَجْوهٌ:
أَوَّلُها: أَنَّ وَزْنَ الكَلِمَةِ "فَعْل" هوَ كَ "فَلْس"، فَقَوْلُهُ ـ تَعَالى: "تَتْرَىً" كَما تَقَولُ: نَصَرْتُهُ نَصْرًا. وَوَزْنُهُ فِي قِرَاءَتِهِمْ فَعْلًا.
وَقَدْ رُدَّ هَذَا الوَجْهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ جَرَيانُ حَرَكَاتِ الإِعْرَابِ عَلى رَائِهِ، فَيُقَالُ: هَذَا تَتْرٌ، وَمَرَرْتُ بِتَتْرٍ، نَحْوَ قولِهِم: هَذَا نَصْرٌ، وَقولِهِم: رَأَيْتُ نَصْرًا، وَمَرَرْتُ بِنَصْرٍ ـ أَيْضًا. فَإِذَا لَمْ يُحْفَظْ ذَلِكَ بَطَلَ أَنْ يَكونَ وَزْنُهُ "فَعْلًا".
ثانيها: أَنَّ أَلِفَهُ لِلْإِلْحَاقِ بِـ "جَعْفًرٍ" كَمَا هِي فِي: "أَرْطَى" و "عَلْقَى" ـ كَمَا تَقَدَّمَ في مبحثِ الإِعْرَابِ، فَلَمَّا نُوِّنَ ذَهَبَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنَ. وَهَذَا أَقْرَبُ مِمَّا قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ أَلِفِ الإِلْحَاقِ فِي المَصَادِرِ، وَهُوَ نَادِرٌ.
الثالثُ: أَنَّهَا لِلتَّأْنيثِ كَ "دَعْوَى". وَهِيَ وَاضِحَةً. وَإِذًا فَقَدْ تَحَصَّلَ لنا أَنَّ في أَلِفِهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
أَحَدُها: أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ التَّنْوينِ فِي الوَقْفِ.
الثاني: أَنَّهَا لِلِإِلْحَاقِ.
الثالثُ أَنّضها للتَّأْنِيثِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبو حَيَّانَ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا: هَلْ هِيَ مَصْدرٌ كَ: "دَعْوَى" و "ذِكْرَى"، أَمْ هِيَ اسْمُ جَمْعٍ كَ: "أَسْرَى" وَ "شَتَّى".
والمَشْهُورُ أَنَّ "أَسْرَى" وَ "شَتَّى" هما جَمْعا تَكْسِيرٍ ولَيْسا اسْمَا جَمْعٍ. وَفَاءُ "تَتْرَى" هِي في الأصلِ واوٌ؛ لِأَنَّها مِنَ المُواتَرَةِ، وَالوِتْرِ، فَقُلِبَتْ تَاءً كَمَا قُلِبَتْ تاءً في "تَوْارَه" من الوَرْيِ، وَ "تَوْلَجَ" مِنَ الوُلوج، وَ "تَيْقُور" من الوَقارِ، وَ "تُخَمَه" مِنَ الوَخامَة، وَ "تراث" مِنَ الوِراثةِ، وَ "تُجاهَ"، مِنَ الوَجْهِ. وَفي مَدْلُولِ هَذِهِ الكلمةِ قالَ الأَصْمَعِيِّ: يَعْنِي جَاؤوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَبَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ الأَصْفَهَانيُّ: التَّواتُرُ: تَتَابُعُ الشَيْءِ وِتْرًا وَفُرادَى. قَالَ تَعَالى: "ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى" وَالوَتِيْرَةُ: السَّجِيَّةُ وَالطَّريقَةُ. يُقالُ: هُمْ عَلى وَتيرَةٍ وَاحِدَةٍ.
وقيلَ: هِيَ مِنَ المُوَاتَرَةِ وَهِيَ التَّتَابُعُ بِغَيْر مُهْلة. وَالتِرَةُ: الذَّحْلُ. والوَتيرَةُ: الحاجِزُ بَيْنَ المَنْخِرَيْنِ. واللهُ أعلمُ.