سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {سَيَقُولُونَ للهِ} في الآيَةِ: 84، السَّابِقَةِ أَمَرَ الهَُ ـ تَعَالَى، نَبِيَّهُ ـ صلَّى الهُو عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بأَنْ يَسْأَلَ مُشْرِكي مَكَّةَ: عمَّنْ هوَ مالِكُ الأَرضِ بمَنْ فيها ومَنْ عَلَيْها، وفي هَذِهِ الآيةِ الكَريمةِ يقرِّرُ الهُْ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُمْ سَيَقُولونَ "لهِ "، أَوْ "الهُِ" بحَسَبِ اختلافِ القُرَّاءِ، فَإِنَّ بَدَاهَةَ العَقْلِ تَضطَّرُّهُمْ إِلَى الاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، هُوَ خَالِقُهَا وهوُ مالِكُها فَإنَّ اللَّامَ في "لهِع" بحَسَبِ قِراءةِ الجُمْهورِ هِيَ لِلْمُلْكِ باعْتِبَارِ الخَلْقِ، وَهَذا كَقَوْلِهِ ـ تعالى، فِي الآيَةِ: 31، مِنْ سُورَةِ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ، فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}.
قولُه: {قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أَيْ "قُلْ" لهُم عِنْدَ اعْتِرافِهِمْ بِذَلِكَ: "أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" تَبْكِيتًا لَهُمْ وتَقْريعًا، فَكَيْفَ تَعْلَمُونَ أَنَّ الهَم هوَ مَنْ خلقَ الأرضَ ومَا عَلَيْها، وهوَ مالِكُها المُتَصَرِّفُ فيها، وَتَقُولُونَ ذَلِكَ مُعْتَرِفِينَ بهَذِهِ الحقيقةِ، ثُمَّ تُنْكِرونَ البَعْثَ وإِعَادَةَ الخلْقِ مَرَّةً ثانِيَةً، وهوَ في مِيزانِ العَقْلِ أَمْرٌ في غَايَةِ السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ عَلَى مَنْ خَلَقَ ابتداءً أَوَّلَ مَرَّةٍ "أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ" أَنَّكُمْ اعْتَرَفْتُمْ بِهَذَا حِينَ قُلْتُمْ "لهِم" مُلْكُ الأَرْضِ ومَا عليها وَمَا فِيها؟ أنَسيتُمْ اعْتِرَافَكُمْ بذلكَ مِنْ خِلَالِ إِجابَتِكُمُ التي لا جوابَ لكم غيرَها. فإِنَّكُمْ لَوْ تَذَكَّرْتُمْ، وَتَفَكَّرْتُمْ، لَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَنْ قَدِرَ عَلَى خَلْقِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً هوَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ. لأَنَّهُ خلقَهُمُ ابتداءً مِنَ العدَمِ المَحْضِ، حيثُ لمْ يكنْ لَّهم ثَمَّةَ وجودٌ البتَّةَ.
قولُهُ تَعَالى: {سَيَقُولُونَ} سَيَقُولُونَ: السينُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَنِ، و "يقولونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بِالْفاعِليَّةِ. والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلإِخْبَارِ مِنَ اللهِ ـ تَعَالى، عَمَّا يَكونُ مِنْ جوابِهِمْ قبْلَ وُقُوعِهِ، ليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {للهِ} حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، وَالتَّقْديرُ: هِيَ كائِنَةٌ للهِ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قُلْ".
قولُه: {قُلْ} فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أَفَلَا: الهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهامِ التَّوْبِيخِيِّ، دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ، وَالفَاءُ: للعَطْفِ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ، وَالْجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قُلْ". وَالتَّقْديرُ: أَتَقُولونَ ذَلِكَ وَتُنْكِرُونَ البَعْثَ. و "لا" نَافِيَّةٌ. وَ "تَذَكَّرُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وأَصْلُهُ "تَتَذَكَّرونَ"، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بِالْفاعِليَّةِ. والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تَلْكَ الجُمْلَةِ المَحْذوفَةِ عَلَى كَوْنِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولَ القَوْلِ لِـ "قُلْ".
قرأَ الجُمْهُورُ: {سَيَقُولُونَ للهِ} بِغَيْرِ أَلِف هُنَا وَفِي الآيَتَيْنِ بَعْدَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أبي دَاوُدَ فِي (الْمَصَاحِف) عَنْ أُسَيْدِ بْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ الهُُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ بِنِ عَفَّان ـ رَضِيَ الهُم تَعَالى عنْهُ، "سَيَقُولُونَ للهِ" ثَلَاثَتُهُنَّ بِغَيْرِ أَلِفٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَاصِمٍ ـ رَضِيَ الهُ، عنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ "للهِ" بِغَيْرِ أَلِفٍ كُلَّهُنَّ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتيقٍ ـ رَضِيَ الهُل عنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي مُصْحَفِ الْحَسَنِ ـ رَضِيَ الهُص تعالى عَنْهُ، "للهِ" بِغَيْرِ أَلِفٍ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: "للهِ" مِثْلَهُم بِغَيْرِ أَلِفٍ هَهُنَا كَذِلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ قَرَأَ في الآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا: "اللهُ"، "اللهُ" بِأَلِفٍ، وَذَلِكَ عَلَى القِيَاسِ. مِنْ غَيْرِ لَامِ جَرٍّ، وَرَفَعَ اسْمَ الجَلَالَةِ، جَوَابًا عَلَى اللَّفْظِ لِقَوْلِهِ: "مَنْ" مِنْ قَوْلِهِ: "سَيَقُولُونَ اللهُ، قُلْ: "أَفَلَا تَتَّقونَ، سَيَقُولونَ اللهُ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ" لِأَنَّ المَسْؤُولَ بِهِ مَرْفُوعُ المَحَلِّ، وَهُوَ "مَنْ" فَجَاءَ جَوَابُهُ مَرْفوعًا مُطَابِقًا لَهُ لَفْظًا، وَكَذَلِكَ رُسِمَ المَوْضِعَانِ فِي مَصَاحِفِ البَصْرَةِ. قَالَ أَبو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ قَرَأَ: "سَيَقُولُونَ اللهُ" فَهُوَ جَوَابُ السُّؤَالِ، وَمَنْ قَرَأَ "للهِ" فَجَيِّدٌ أَيْضًا، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مَنْ صاحبُ هَذِهِ الدَّارِ؟ فَقِيلَ لَكَ: لِزَيْدٍ، جازَ، لِأَنَّ مَعْنَى قولِكَ: "مَنْ صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ؟": لِمَنْ هِذِهِ الدَّارُ؟. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: مَنْ قَرَأَ "للهِ" فِي المَوْضِعَيْنِ الآخَرَينِ، فَقَدْ أَجَابَ عَلَى المَعْنَى دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ.
وَقَرَأَ سَعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو المُتَوَكِّلِ، وَأَبُو الجَوْزاءِ ـ رَحِمَهُمُ الهُُ جَمِيعًا: "سَيَقُولونَ اللهُ" "اللهُ" "اللهُ" بِأَلِفٍ فِي الآياتِ الثَّلاثِ كُلِّهِنَّ.
قَالَ أَبُو عَلَيٍّ الأَهْوَازِيُّ ـ رَحِمَهُ الهُل تَعَالَى: وَهُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ البَصْرَةِ بِأَلِفٍ فِيهِنَّ.
فَالسُّؤَالُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ الدَّارُ؟، وَمَنْ ربُّ هذِهِ الدَّرُ؟. واللامُ مَرْسُومَةٌ فِي مَصَاحِفِهِمْ، فَوَافقَ كُلٌّ مُصْحَفَهُ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ في الأَوَّلِ أَنَّهُ "لله" لِأَنَّهُ مَرْسُومٌ باللَّامِ. وَجَاءَ الجَوَابُ باللَّامِ كَمَا فِي السُّؤالِ. وَلَوْ حُذِفَتْ مِنَ الجَوَابِ لَجَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ "لِمَنِ الأَرْضُ" وَ "مَنْ رَبُّ الأرضِ" إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ.
قَرَأَ العامَّةُ: {تَذَكَّرُونَ} بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَسْهِيلًا، وَقُرِئَ: "تَتَذَكَّرُونَ" عَلَى الأَصْلِ.