الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 52
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} اسْتِئْنافٌ لِمَا خُاطَبَ اللهُ ـ تَعَالَى، بِهِ رُسُلَهُ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مَسُوقٌ لِبَيَانِ أَنَّ مِلَّةَ الإِسْلَامِ واحِدَةٌ، وأَنَّ جميعَ المُرسَلينَ أُمِرُوا بتَوْحِيدِهِ ـ جَلَّ وَعَلَا.
والأُمَّةُ ـ هُنَا، هِيَ المِلَّةُ والشَّريعَةُ والدِّينُ وَمِنْ ذلكَ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ الزُّخْرُفِ: {قالوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنَّا على آثارِهِمْ مُقْتَدونَ} الآيةَ: 22، فَـ "على أُمَّةٍ ـ هنا، أَيْ: عَلَى دِينٍ. وَمِنْ ذلكَ قَولُ النَّابِغَةِ الذُّبْيانيِّ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ........... وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ
وَالْخِطَابُ في هَذِهِ الآيةِ الكَريمةِ هُوَ لِجَمِيعِ المُرْسَلينَ ـ صَلَوَاتُ رَبِّي وتحيَّاتُ وَسَلَامُهُ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعينَ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَانٍ إِلى يَومِ الدِّينِ.
وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ لَلمُرْسَلِينَ وَلِغَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ذكْرُهُ وبَيَانُهُ مُفَصَّلًا في تَفْسيرِ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها؛ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى، عَنْهُ.
قوْلُهُ: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} تتِمَّةُ الخِطابِ وَبَيانٌ منْهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، بِأَنَّهُ هوَ رَبُّ الجَمِيعِ، فقد خلَقَهُمْ وأَمَدَّهم بالحَيَاةِ وَبِأَسْبابِ اسْتِمْرَارِهَا، وَلِذَلِكَ فَهُوَ المُسْتَحِقُّ الوَحِيدُ للطَّاعَةِ وَالعِبَادَةِ، وَالخَوْفِ مِنْ غَضَبِهِ، والابْتعادِ عَمَّا يوجِبُ عَذابَهُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَ قيلَ: عاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} الآيةَ: 51، السَّابقَةَ، عَطَفَتْ قَوْلًا عَلَى قَوْلٍ، وَالتَّقْديرُ: قُلْنا يَا أَيُّها الرُّسُلُ كُلُوا .. وَقُلْنَا لَهُمْ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ، وهُوَ بَعيدٌ. وَ "إنَّ" حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ. وَ "هَذِهِ" الهاءُ: للتَنْبيهِ، و "ذِهِ" اسْمُ إِشارةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الكَسْرِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، اسْمُ "إِنَّ"، وَ "أُمَّتُكُمْ" خَبَرُها مَرْفوعٌ بِها، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. وَ "أُمَّةً" مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ مِنْ "أُمَّتُكُمْ". وَ "وَاحِدَةً" صِفَةٌ لِـ "أُمَّةً" مَنْصوبةٌ مِثْلُها. والجُمْلَةُ مِنْ "إِنَّ" واسْمِها وخَبَرِها جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ كَسْرِ الهَمْزَةِ "إنَّ"، وَأَمَّا عَلى قِرَاءَةِ فَتْحِهَا فَهيَ سادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "عَلِمَ" المَحْذُوفَةِ، والتقديرُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ أُمَّتُكمْ أُمَّةً وَاحِدِةً، وَالْجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} مِنَ الآيةِ التي قبلَها.
قوْلُهُ: {وَأَنَا رَبُّكُمْ} الوَاوُ: عاطِفةٌ، وَ "أَنَا" ضميرُ المعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مُنْفَصِلٌ مَبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. وَ "رَبُّكُمْ" خبرُهُ مَرفوعٌ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ لتذْكيرِ الجَمْعِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ" عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {فَاتَّقُونِ} الفاءُ: هيَ الفَصِيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتُمْ وَأَنَا رَبُّكمْ، وَأَرَدْتُمْ بَيَانَ مَا هُوَ اللَّازِمُ لَكُمْ فَأَقُولُ لَكُمْ: اتَّقونَ". و "اتَّقونِ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ بِهِ مَبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، وَهَذِهِ النُّونُ للوِقاية، والياءُ: ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ مَحْذوفَةٌ اجْتِزَاءً عَنْها بِكَسْرَةِ نُونِ الْوِقَايِةِ، وهيَ مبنيَّةٌ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُوليَّةِ، وَالجملةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِجَوَابِ "إذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانيًا فليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ الجُمهورُ" {أَنَّ هذِهِ} بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وَتَثْقيلِ النُّونِ. وَفِيهَا ثَلاثُةُ أَوْجُهٍ: الأَوَّلُ: أَنَّهَا عَلَى حَذْفِ اللَّام، أَيْ: "وَلَأَنَّ هَذِهِ"، فَلَمَّا حُذِف الحَرْفُ جَرَى الخِلَافُ المَشْهُورُ. وَهَذِهِ اللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِـ "اتَّقون". وَالثاني: أَنَّهَا عَطْفُ نَسَقٍ عَلَى {بِمَا تَعْمَلُونَ} أَيْ: إِنِّي عَلِيمٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَبِأَنَّ هَذِهِ". فَـ "هَذِهِ" داخلةٌ في حَيِّزِ المَعْلُومِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي الكَلَامِ حَذْفًا والتقديرُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِه أمَّتُكم.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ "أَنْ هَذِهِ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ علىَ أَنَّها المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَة.
وَقرَأَ الكُوفِيُّونَ: "إِنَّ" بَكَسْرها والتَّثْقيلِ عَلَى الاسْتِئْنَافِ.