وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ
(4)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ} أَعْقَبَ ذِكْرَ الصَّلَاةِ بِذِكْرِ الزَّكَاةِ لِمَا بَيْنَهُما مِنْ تَّآخٍ وترابُطٍ، فَإِنَّك لا تَكادُ تَجِدُ آيَةً فِي كِتَابِ اللهِ العَزيزِ ذُكِرَتِ فِيهَا الصَّلاةُ إِلَّا أُعْقِبَتْ بِذِكْرِ الزَّكاةِ، وَإِنَّمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا هُنَا بِآيةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي ذكَرْناهَا آنِفًا هُنَاكَ.
وَهَذَا مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ طَبَقَةِ أَهْلِ الْخَصَاصَةِ وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى
آدَابِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ. وَقدْ تَقدَّمَ آنِفًا الْقَوْلُ فِي إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ وَتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ حَيْثُ وُضِّحَ بما فيهِ الغناءُ عَنْ إعادَتِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْفِعْلِ هُنَا الْفِعْلُ الْمُنَاسِبُ لِهَذَا الْمَفْعُولِ بِهِ وَهُوَ الْإِيتَاءُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَة: {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ} الآيةَ: 55، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ.
والزكاةُ في الأصلِ مَصْدَرٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى القَدْرِ المُخْرَجِ مِنَ الأَعْيَانِ زكاةً لَهَا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ عَيْنٍ وَمَعْنًى، فَالْعَيْنُ: القَدْرُ الَّذي يُخْرِجُهُ المُزَكِّي مِنَ النِّصَابِ، وَالْمَعْنَى: فِعْلُ المُزَكِّي، وَهُوَ الَّذي أَرَادَهُ اللهُ، فَجَعَلَ المُزَكِّيْنَ فاعِلينَ لَهُ، وَلَا يَسُوغُ فِيهِ غَيْرُهُ، لِأَنَّه مَا مِنْ مَصْدَرٍ إلَّا يُعَبَّرُ عَنْهُ بالفِعْلِ. وَيُقالُ لِمُحَدِثِه "فَاعِلٌ". فَتَقُولُ للضَّارِبِ: فاعِلُ الضَرْبِ، ولِلقاتِلِ فَاعِلُ القَتْلِ، وَلِلْمُزَكِّي فاعِلُ التَّزْكِيَةِ، وَعَلَى هَذَا الكَلامُ كَلُّهُ.
قالَ السَّمينُ: وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّكَ تَقُولُ فِي جَمِيعِ الحَوَادِثِ: مَنْ فاعِلُها؟. فيُقَالُ لَكَ: اللهُ، أَوْ بَعْضُ الخَلْقِ. وَلَمْ تَمْتَنِعِ الزَّكاةُ الدَّالَّةُ عَلَى العَيْنِ أَنَ يَتَعَلَّقَ بِهَا قولُهُ ـ تَعَالَى: "فاعلون"، وذلكَ لِخُروجِها مِنْ صِحَّةِ أَنْ يَتَنَاوَلَها الفَاعِلُ، وَلَكِنْ لِأَنَّ الخَلْقَ لَيْسُوا بِفَاعِلِيهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرادَ بِالزَّكاةِ العَيْنُ، فَيُقَدَّرَ لَهُ مُضَافٌ مَحْذوفٌ وَهُوَ الأَدَاءُ، أَيْ: والَّذينَ هُمْ لأَداءِ الزَّكاةِ فاعِلُونَ.
وَزَعَمَ بعضُهُمْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الزَّكاةُ هُنَا المَصْدَرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ العَيْنَ لَقَالَ "مُؤَدُّوْن"، وَلَمْ يَقُلْ "فاعِلَونَ". فَقَالَ أَبو القاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ لِعَدَمِ صِحَّةِ تَنَاوُلِ فَاعِلٍ لَهَا، بَلْ لِأَنَّ الخَلْقَ لَيْسُوا بِفَاعِلِيهَا، وَإِنَّما جَعَلَ الزكَواتِ فِي بَيْتِ أُمَيَّةَ ابْنِ الصَّلتِ أَعْيَانًا لِجَمْعِهَا؛ لِأَنَّ المَصْدَرَ لَا يُجْمَعُ. وَقالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ الأندَلُسيُّ في تفسيرِهِ "البحرُ المحيطُ": يَجُوزُ أَنْ يكونَ مَصْدَرًا، وَإِنَّمَا جُمِعَ لِاخْتِلافِ أَنْوَاعِهَ.
وَزَكَّى فُلانٌ نَفْسَهُ، طَهَّرَها مِنَ الْمَذَمَّاتِ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ لِوَجْهِ اللهِ مَجَازًا، لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيدُ فِي مَالِ الْمُعْطِي. فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ التَّوبةِ: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها} الآيةَ: 103، وَقد أُطْلِقَتْ عَلَى الْمَالِ الْمُنْفَقِ نَفْسِهِ، وهوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِهِ، وَهُوَ الْمُتَعَيِّنُ هُنَا، بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِهِ بِـ "فاعِلُونَ" الْذي يَقْتَضِي أَنَّ الزَّكَاةَ مَفْعُولٌ بِهِ. وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ لِفِعْلٍ مِنْ مَادَّةِ (فَ. عَ. لَ) لِأَنَّ صَوْغَ الْفِعْلِ مِنْ مَادَّةِ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ يُغْنِي عَنِ الْإِتْيَانِ بِفِعْلٍ مُبْهَمٍ وَنَصْبِ مَصْدَرِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ. فَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: فَعَلْتُ مَشْيًا، يُريدَ بِذلكَ أَنْ يَقُولَ: مَشَيْتُ، كَانَ خَارِجًا عَنْ تَرَاكِيبِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ قولًا مُفِيدًا. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُم: فَعَلْتُ مِمَّا تُرِيدُهُ، لَصَحَّ التَّرْكِيبُ، فَقَدْ قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى، في الآيَةِ: 59، مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْراهيمُ}، أَيْ: هَذَا الفِعْلَ الْمُشَاهَدَ مِنَ كَسْرِ الأَصْنامِ وَحَطْمِهَا، أَيْ: هَذَا الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَصْدَرَ، لِأَنَّهُ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ ـ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ غَيْبَةِ فَاعِلِهِ.
وَإِنَّمَا أُوثِرَ هُنَا الِاسْمُ الْأَعَمُّ، وَهُوَ "فاعِلُونَ" لِأَنَّ مَادَّةَ (فَ. عَ. لَ) مُشْتَهِرَةٌ فِي إِسْدَاءِ الْمَعْرُوفِ، وَقد اشْتُقَّ مِنْهَا الْـ (فَعَالُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ، ومِنْهُ قَوْلُ الشَّعِرِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْخَارِجِيُّ:
إِنْ تُنْفِقِ الْمَالَ أَوْ تُكَلَّفْ مَسَاعِيَهُ .... يَشْقُقْ عَلَيْكَ وَتَفْعَلْ دُونَ مَا فُعِلَا
وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ قوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
الْمُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي السَّنَةِ الْأَزِ ............... مَةِ وَالْفَاعِلُونَ لِلزَّكَوَاتِ
وَلَعَلَّ هذا الْبَيْتَ مِمَّا نُحِلَ مِنَ الشِّعْرِ عَلَى أَلْسِنَةِ الشُّعَرَاءِ، فإنِّي لَا أَحْسَبُ اسْتِعْمَالَهُ الزَّكَاةِ فِي مَعْنَى الْمَالِ الْمَبْذُولِ لِوَجْهِ اللهِ إِلَّا مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ. وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ حتَّى لَوْ صَحَّتْ نِسْبتُهُ إِلَيْهِ، لِقَولِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ: (الشِّعْرُ وَالشُّعَرَاءُ): وَعُلَمَاؤُنَا لَا يَرَوْنَ شِعْرَ أُمَيَّةَ بْنِ الصَّلْتِ حُجَّةً عَلَى الْكِتَابِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَاللَّامُ لَامُ التَّقْوِيَةِ، وَذَلِكَ لِضَعْفِ الْعَامِلِ: بِالْفَرْعِيَّةِ، وَبِالتَّأْخِيرِ عَنْ مَعْمُولِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وَجَعَلَا الزَّكَاةَ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ. وَمَعْنَى "فاعِلُونَ" فَاعِلُونَ الْأَفْعَالَ الصَّالِحَاتِ، فَحُذِفَ مَعْمُولُ "فاعِلُونَ" بِدَلَالَةِ عِلَّتِهِ عَلَيْهِ.
قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: يُزَكُّونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللهِ.
وَقَالَ الكَلْبِيُّ: وَالذينَ هُمْ للصَّدَقَةِ الوَاجِبَةِ مُؤَدُّونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ "وَالَّذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فاعِلُونَ" قالَ: يَعْنِي: الْأَمْوَال.
وَقَالَ أَبُو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ فِي "مَعَانِي القُرْآنِ وإِعرابُهُ" لَهُ: (4/6): مَعْنَى "فَاعِلُونَ" مُؤْتُونَ. يَعْنِي أَنَّ الإِيتَاءَ فِعْلٌ، فَعَبَّرَ اللهُ عَنْهُ بِلَفْظِ الفِعْلِ كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ الصَّلْتِ:
المُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي السَّنَةِ ................ الأَزْمَةِ وَالفَاعِلُونَ للزَّكَواتِ
وَحَكَى الأزْهَرِيُّ فِي "تَهْذيبِ اللُّغَةِ" لَهُ: (10/320)، عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ المَعْنَى: وَالَّذينَ هُمْ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فَاعِلونَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ مِنْ ـ تَعالى، مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ: {خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} الآيَةَ: 81، أَيْ: خَيْرًا مِنْهُ عَمَلًا صَالِحًا.
وَفِي "الْكَشَّافِ" أَنَّ الزَّكَاةَ هُنَا مَصْدَرٌ وَهُوَ فِعْلُ الْمُزَكِّي، أَيْ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ وَهُوَ الَّذِي يَحْسُنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ "فاعِلُونَ" لِأَنَّهُ مَا مِنْ مَصْدَرٍ إِلَّا وَيُعَبِّرُ عَنْ مَعْنَاهُ بِمَادَّةِ "فَعَلَ" فَيُقَالُ لِلضَّارِبِ: فَاعِلُ الضَّرْبِ، وَلِلْقَاتِلِ: فَاعِلُ الْقَتْلِ.
وَإِنَّمَا حَاوَلَ بِذَلِكَ إِقَامَةَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَغَلَبَ جَانِبُ الصِّنَاعَةِ اللَّفْظِيَّةِ عَلَى جَانِبِ الْمَعْنَى، وَجَوَّزَ الْوَجْهَ الْآخَرَ عَلَى شَرْطِ تَقْدِيرِ مُضَافٍ،
وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "الَّذِينَ" اسمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفعِ صِفَةً لِـ {الْمُؤْمِنُونَ} وذلكَ عَطفًا عَلَى الاسْمِ المَوْصُولِ الأَوَّلِ. و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ لِجَمَاعَةِ الغائبينَ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "لِلزَّكَاةِ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَضُمِّنَ "فَاعِلُونَ" مَعْنَى "مُؤَدُّونَ"، وَقِيلَ: اللامُ: زَائِدَةٌ فِي المَفْعُولِ بِهِ، لِتَقَدُّمِهِ عَلَى عَامِلِهِ، ولِكَوْنِهِ فَرْعًا، وَ "الزَّكاةِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "فَاعِلُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفُوعٌ، وَعَلَاَمةُ رَفعِهِ الوَاوُ لِأَنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الَّذينَ" فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.