الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 112
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} أَيْ: كَمْ كَانَتْ مُدَّةُ إِقَامَتِكُمْ فِي الدُّنْيَا؟. فَمَازَالَ الخِطابُ للمُشْرِكينَ أَهْلِ النَّارِ بعدَ أَنْ لَفَحَتْهُمُ النَّارُ وجَأَرُوا إلى اللهِ ـ تَعَالَى، بالدَّعاءِ أَنْ يُخْرجَهُ مِنْهَا، وقطَعوا العهْدَ على أنفُسِهِمْ أَلَّا يَفْعَلُوا مِنَ العمْلِ مَا يُعِيدُهُمْ فيها، وَزَجَرَهُمْ الحَقُّ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، ولمُ يسمح لهم بالكلامِ، فقالَ لَهُمْ: كمْ سَنَةً لَبِثْتُم في الدُّنْيا تَنْبيهًا لهُمْ إِلَى تَفْريطِهِمْ وَمَا أَضَاعُوهُ مِنْ عُمْرٍ قَصِيرٍ في حياتِهِمُ الدُّنْيَا، الذي قَضَوهُ بالكُفْرِ والمَعاصِي، ولوْ أَنَّهُمْ أَمْضوا هَذِهِ المُدَّةَ في طاعَةِ اللهِ ـ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وصَبَرُوا عَنْ شهَواتِهِمُ المُحَرَّمَةِ لَفَازُوا بجنَّةٍ عَرضُها السَّماواتِ والأرضِ كَمَا فَازَ أَوْلِياءُ اللهِ المُتَّقونَ وأحبابُهُ المُؤمنونِ، فَإِنَّها جِدُّ قَصِيرَةٍ لوْ كانوا يعلمونَ مُقَارَنَةً بِطُولِ مُكوثِهِمْ في العَذَابِ الأَليمِ.
وقالَ محمَّدُ الطَّاهِرُ بْنُ عاشورٍ فِي تَفْسِيرِهِ المُسَمَّى "التَّحْريرُ وَالتَّنْويرُ": قَرَأَ الْجُمْهُورُ: "قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ" بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقَعُ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ وَحَيَاةِ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ جَوَابَ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ} الْمُؤْمِنُونَ: 101. وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ اللهُ لَهُمْ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ. كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَاتٌ نَشَأَتْ بِالتَّفْرِيعِ وَالْعَطْفِ وَالْحَالِ وَالْمُقَاوَلَاتِ الْعَارِضَةِ فِي خِلَالِ ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيِ. وَلَيْسَ مِنَ الْمُنَاسِبِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ حَاصِلًا بَعْدَ دُخُولِ الْكَافِرِينَ النَّارَ، وَالْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى ذَلِكَ تَكَلَّفُوا مَا لَا يُنَاسِبُ انْتِظَامَ الْمَعَانِي. وَقَوْلُهُ هَذَا مَدْفوعٌ بِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في حَديثِ أَيْفَعَ بْنِ عَبْدِ الْكَلَاعِي ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، الَّذي أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ إِذَا أَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ، قَالَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: "كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ"؟. قَالُوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}. قَالَ: لَنِعْمَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ، رَحْمَتي وَرُضْوَاني وَجَنَّتِي، اسْكُنُوا فِيهَا خَالِدينَ مُخَلَّدينَ. ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ النَّارِ: "كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ"؟. قَالُوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}. فَيَقُولُ: بِئْسَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِ يَوْم، نَارِي وَسَخَطِي، امْكُثُوا فِيهَا خَالِدينَ. "التَّحْريرُ وَالتَّنْويرُ": (18/130 ـ 131). فإنَّهُ نَصٌّ صريحٌ في تأييدِ ما ذَهَبَ إِلَيْهِ معظمُ المُفسرينَ، ثمَّ إِنَّ الآيَةَ جاءتْ في سياقِ الحديث عَنْ أهْلِ النَّارِ وسُؤالِهِمْ رَبَّهُمُ الخروجَ مِنَ النارِ، وزجرِهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، لهم ورَدِّهِ عليهِمْ بالتوْبيخِ والتَّأْنيبِ والتَّنْدِيمِ، فَالآيَةُ تَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلى إِنْكارِهِمُ النُّشُورَ والبَعْثَ مِنَ القُبُورِ للحِسَابِ والجَزَاءِ، فَنعيمٌ وَثَوَابٌ، أَوْ عِقَابٌ وعَذابٌ، يَومَ القِيامَةِ. والهُْ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} كَمْ: اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "لَبِثْتُمْ". أَيْ: كَمْ سَنَةً لَبِثْتُمْ. وَ "لَبِثْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكِ هُوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعليَّةِ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "لَبِثْتُمْ" أَيْضًا، أَوْ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنْ ضميرِ الفاعِلِ في "لَبِثْتُمْ"، و "الْأَرْضِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "عَدَدَ" مَنْصُوبٌ بِـ "كَمْ" عَلى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لَه، وقالَ أَبو البقاءِ العُكْبُرِيُّ: "عَدَدَ" بَدَلٌ مِنْ "كم" وَالصَّحيحُ مَا ذَكَرْنا، وَهُوَ مُضافٌ. وَ "سِنِينَ" مَجْرُورٌ بِالإِضافَةَ إِلَيْهِ، وَعَلامَةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ مُلْحقٌ بجمعِ المُذَكَّرِ السَّالمِ، وَجُمْلَةُ "لَبِثْتُمْ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قَالَ".
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ} بِصِيغَةِ الْمَاضِي، في المَوْضِعَيْنِ، هُنَا وفي قولِهِ بعدَها {قُلْ إِنْ لِبِثْتُمْ} عَلَى الإِخْبَارِ عَنِ اللهِ ـ تَعَالَى، أَوِ المَلَكِ المُكَلَّفِ بِذَلِكَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "قُلْ" بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وكَذَلِكَ قَوْلَهُ بَعْدَها {قُلْ إِنْ لِبِثْتُمْ} بِالْأَمْرِ فِي المَوْضِعَيْنِ، فَيَكونُ الْخِطَابُ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِإِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ. وقرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ كَالْأَخَوَيْنِ فِي الأَوَّلِ فَقَطْ، والفِعْلَانِ مَرْسُومَانِ بِغَيْرِ أَلِفٍ فِي مَصَاحِفِ الكُوفَةِ، وَبِأَلِفٍ في مَصَاحِفِ مَكَّةَ وَالمَدينَةِ وَالشَّامِ وَالبَصْرَةِ، فَحَمْزَةُ والكسائيُّ وَافَقَا مَصَاحِفَ الكُوفَةِ، وَخَالَفَهَا عَاصِمٌ، أَوْ وَافَقَهَا عَلى تَقْديرِ حَذْفِ الأَلِفِ مِنَ الرَّسْمِ وَإِرَادَتِهَا. وَابْنُ كَثيرٍ وَافَقَ فِي الثَّاني مَصَاحِفَ مَكَّةَ، وَفِي الأَوَّلِ غَيَّرَها، أَوْ أَتَاهَا عَلى تَقْديرِ حَذْفِ الأَلِفِ وَإِرادَتِهَا. وأَمَّا العامَّةُ فَوَافَقُوا مَصَاحِفَهُمْ فِي الأَوَّلِ وَالثَّاني.
وَقَرَأَ الأَعْمَشُ وَالمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمً "عَدَدًا" مُنَوَّنًا. وَفِيهِ أَوْجُهٌ، أَحَدُها: أَنْ يَكُونَ "عَدَدًا" مَصْدَرًا أُقيمَ مُقَامَ الاسْمِ، فَهُوَ نَعْتٌ تَقَدَّمَ عَلَى مَنْعُوتِهِ. قالَهُ صَاحِبُ "اللَّوَامِحِ". يَعْنِي أَنَّ الأَصْلَ: "سِنِينَ عَدَدًا" أَيْ: مَعْدودَةً، لَكِنَّهُ يُلْتَزَمُ تَقديمُ النَّعْتِ عَلَى المَنْعوتِ، فَصَوَابُهُ أَنْ يَقولَ: فَانْتَصَبَ حَالًا. هَذَا مَذْهَبُ البَّصْريِّينَ. والثاني: أَنَّ "لَبِثْتُم" بِمَعْنَى عَدَدْتُمْ. فَيَكونُ نَصْبُ "عَدَدًا" عَلَى المَصْدَرِ، وَ "سِنِينَ" بَدَلٌ مِنْهُ. وَقالَ صَاحِبُ "اللَّوَامِحِ" أَيْضًا: وَفِيهِ بُعْدٌ؛ لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللُّبْثِ عَلَى العَدَدِ. وَالثالثُ: أَنَّ "عَدَدًا" تَمْييزٌ لِـ "كَمْ" وَ "سِنِينَ" بَدَلٌ مِنْهُ.