الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 92
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} دَليلٌ آخَرُ عَلى انتِفاءِ الشَّريكِ بِنَاءً عَلى تَوافُقِهم في تَفَرُّدِهِ ـ تَعَالى، بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ بالفَاءِ، قَوْلُهُ ـ تَعَالى: "فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ". فَإِنَّه ـ سُبْحانَهُ، يَعْلَمُ ما تُشَاهِدُهُ المَخْلُوقَاتُ، وَمَا يَغِيبُ عَنْها.
فَعَالَمُ الشَّهادةِ: هُوَ المَشهودُ المُدْرَكُ بالحواسِّ الخمسِ، المَعلومُ مِنْ قبَلِ الخَلَائقِ سَوَاءً أَكَانَ ذَلِكَ بحاسَّةِ البَصَرِ أَوِ السَّمعِ أوْ غيرِهما.
وَعَالَمُ الغَيْبِ: هُوَ الغائبُ عَنِ المَخْلوقاتِ فَلَا تَسْتَطِيعُ مَعْرِفَتَهُ إِلَّا بإخبار الصادِقِ العَلِيمِ ـ جَلَّ وعَلَا، لأَنَّ الحواسَّ الخمسَ الَّتي هِيَ وسائطُ الإدْراكِ عِندَ البَشَرِ لا يمكنُها إدْراكُهُ والتعرُّفُ عَلَيْهِ. ولِذَلِكَ كانَ التَّصْديقُ بما ذَكَرَهُ رُسُلُ الهِد عَنْ هذهِ المُغَيَّباتِ دليلَ الثِّقَةِ وَقُوَّةِ الإيمانِ بالهِه وُرُسُلِهِ وما جاؤوا بهِ مِنْ عندِ الخالقِ ـ تباركَ وتعالى، وكانَ أَجْرَ ذلكَ الإيمانِ جَنَّةٌ {عَرْضُها السَّمواتُ والأَرْضُ أُعِدَّتْ للمُتَّقينَ} الآيةَ: 133، مِنْ سُورةِ آلِ عِمرانَ، {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون} الآيةَ: 3، مِنْ سورةِ البقَرَةِ.
فالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: "عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ" عُمُومُ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ ـ سُبْحانَهُ، بِكُلِّ شَيْءٍ، أَفَادَتْ ذَلكَ الِاسْتِغْرَاقَ الْحَقِيقِيَّ لَامُ التَّعْرِيفِ فِي كُلٍّ مِنَ "الْغَيْبِ" وَ "الشَّهادَةِ"، أَيْ: عَالِمُ كُلِّ مَشْهودٍ ظَاهِرٍ، وَكُلِّ محجوبٍ مُغَيَّبٍ، وذَلِكَ لِدَفْعِ تَوَهُّمٍ، كَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ اسْتِقْلَالَ كُلِّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ قَدْ لَا يُفْضِي إِلَى عُلُوِّ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى بَعْضٍ، لِجَوَازِ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَحَدٌ مِنَ الْآلِهَةِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِ مَلَكُوتِهِ عَلَى مَلَكُوتِ الإلهِ الْآخَرِ، فَلَا يَحْصُلُ عُلُوٌّ مِنْ قِبَلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضِهِمُ الآخَرِ، لِانْشِغَالِ كُلِّ إِلَهٍ بِمَلَكُوتِهِ الخاصِّ بِهِ.
وَوَجْهُ الدَّفْعِ لِهَذا أَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ غَيْرَ خَالِقٍ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا غَيْرُهُ، حتَّى لا تَتَدَاخَلَ الْقُدُراتُ فِي مَقْدُورٍ وَاحِدٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا خَلَقَهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّ صِفَاتِ الْعِلْمِ لَا يجوزُ أَنْ تَتَدَاخَلَ، فَإِذَا عَلِمَ أَحَدُ الْآلِهَةِ مِقْدَارَ مَلَكُوتِ شُرَكَائِهِ، أَوْ أَحَدٍ منهم، فَإِنَّ عِلْمَهُ بِأَشَدِّيَّةِ مَلَكُوتِهِ يَعْلُو عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَلَكُوتِ. فَظَهَرَ مِنْ ذلكَ أَنَّ قَوْلَهُ ـ تَعَالَى: "عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ" هُوَ مِنْ تَمَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِحالةِ الشَّرَاكةِ، وانْتِفَاءِ وُجودِ الشُّرَكَاءِ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ـ عزَّ وجَلَّ: "فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" بِفَاءِ التَّفريعِ، والهَُ أَعْلمُ.
قوْلُهُ: {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فَتَعَالَى: أَيْ: فَتَقَدَّسَ، وَتَنزَّهَ، وَتَرَفَّعَ عَمَّا يَقُولُهُ المُشْركونَ الظَّالِمُونَ الجَاحِدُون، وعمَّا يَفْعلونَهُ، وَعَمَّا يُنْسبُونَهُ إِلَيْهِ ـ تَعَالى، مِنْ الوَلَدِ والنِّدِّ والشَّرِيكِ. فَإِنَّ تَفرُّدَهُ ـ جَلَّ وَعَلا، بِذَلِكَ مُوجِبٌ لِتَعَالِيهِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
قولُهُ تَعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ـ بِالرَّفْعِ بحَسَبِ قراءةِ الجَماعَةِ: خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، وَهُوَ مُضافٌ. وَ "الْغَيْبِ" مَجْرُورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "وَالشَّهَادَةِ" الواوُ: للعَطْفِ، وَ "الشَّهادةِ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ مَجْرُورٌ مِثْلُهُ. وَأَمَّا "عَالِمِ" بِحَسَبِ قراءةِ الْجَرِّ: فَبَدَلٌ مِنِ اسْمِ الجلالَةِ، أَوْ صِفَةٌ لَهُ، وهَذِهِ الجُملةُ الاسْمِيَّةُ هيَ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَيسَ لَهَا محلٌّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَتَعَالَى عَمَّا} الفاءُ: حَرْفٌ للعَطْفِ والتَّفْريعِ عَلَى مَحْذُوفٍ، فكَأَنَّهُ قِيلَ: عَلِمَ اللهُ الغَيْبَ وَالشَّهادةَ فَتَعَالَى، وَ "تَعَالى" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الألِفِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ)، يعودُ على الهَِ ـ تَعَالَى. و "عَمَّا" عَنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَعَالى، و"ما" موصولةٌ مَبْنِيَّةٌ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرفِ الجَرِّ، ويجوزُ أنْ تكونَ مَصْدَرِيَّةً. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلى الحملةِ الاسْمِيَّةِ أَوْ عَلى تِلْكَ الجُمْلةِ المَحْذوفَةِ مُفَرَّعَةٌ عَلَيْهَا عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ.
قولُهُ: {يُشْرِكُونَ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بِالْفاعِلِيَّةِ، وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَا" الْمَوْصُولَةِ فَلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ. وَيَجُوزُ أَنْ تكونَ "ما" مَصْدَريَّةً فتكونُ الجُمْلةُ صلَّةً لِـ "ما" المَصْدَرِيَّةِ، ولا مَحلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ أَيْضًا.
قَرَأَ الجُمْهورُ: ـ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ ابْنُ الأنْباريُّ، عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، وَخَلَفٌ: {عَالِمُ الْغَيْبِ} بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تقديرُهُ" (هُوَ)، وَهُوَ مِنَ الشَّائِعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِذَا أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَخْبَارٌ، أَوْ صِفَاتٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ "عالِمِ الغيبِ" بِجَرِّ "عَالِمِ" عَلَى الْوَصْفِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ في الآيَةِ التي قبْلَها: {سُبْحانَ اللهِ}.
قالَ سعيدٌ الأَخْفَشُ: الجَرُّ أَجْوَدُ، لِيَكونَ الكَلامُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَالرَّفْعُ، عَلَى أَنْ يَكونَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذوفٍ، وَيُقَوِّيهِ أَنَّ الكلامَ الأَوَّلَ قَدِ انْقَطَعَ. والرَّفْعُ أَبْرَعُ عِنْدَ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَدِ اخْتَارَهُ الفَرَّاءُ، وَقَالَ: وَجْهُ الكَلامِ الرَّفْعُ بِالِاسْتِئْنافِ، الدَّليلُ عَلَى ذَلِكَ دُخُولُ الفَاءِ فِي قَوْلِهِ: "فَتَعَالَى اللهُ" وَلَوْ خُفِضَتْ لَكَانَ وَجْهُ الكَلِمِ أَنْ يَكون "وَتَعَالى" بالوَاوِ لأَنَّهُ إِذَا خُفِضَ أُريدَ: سُبْحَانَ اللهِ عَالِمِ الغَيْبِ والشهادةِ، وَتَعَالَى. فَدُخُولُ الفاءِ دَليلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى؛ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللهِ المُحْسِنِ وَأَحْسَنْتُ إِلَيْهِ. فَلَوْ رَفَعْتَ "المُحْسِنُ" لَمْ يَكُنْ بِالْوَاوِ لِأَنَّكَ تُريدُ: هُوَ المُحْسِنُ فَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِ.
قَالَ: وَقَدْ يَكونُ الخَفْضُ فِي "عَالِمِ" تَتْبَعُهُ مَا قَبْلَهُ وَإِنْ كَانَ بالفاءِ؛ لِأَنَّ العَرَبَ قَدْ تَسْتَأْنِفُ بِالْفَاءِ كَمَا يَسْتَأْنِفونَ بِالْوَاوِ. "مَعَانِي القرآنِ وإِعرابُهُ" لهُ: (2/241). وَانْظُرْ أَيْضًا: "مَعاني القِرَاءَاتِ" لِلْأَزْهَرِيَّ: (2/440).