ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ
(13)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} طَوْرٌ آخَرُ مِنْ أطْوارِ الْخَلْقِ وَهُوَ طَوْرُ اخْتِلَاطِ السُّلَالَتَيْنِ فِي الرَّحِمِ. فإِنَّ هَذِهِ الآيَةَ الكريمَةَ تَتَحَدَّثُ عَن نَّقْلِ الْإِنْسَانِ، مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، لِيَدُلَّ خَلْقُهُ وأَطوارُ نَقْلِهِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ ولا نِدَّ ولَا نَظِير.
أَيْ: ثُمَّ جَعَلَ اللهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، نَسْلَ آدَمَ مُتَحَدِّرًا مِنْ نُطْفَةٍ ـ سُمِّيَتْ بِذلكَ لِأَنَّهَا تُنْطَفُ، أَيْ تُقْطَرُ فِي رَحِمِ المَرْأَةِ مِنْ مَاءٍ ضَعِيفٍ مُمْتَهَنٍ مُتَدَفِّقٍ.
وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ بِسَنَدٍ وَاهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، مَرْفُوعًا قالَ: ((النُّطْفَة الَّتِي يُخْلَقُ مِنْهَا الْوَلَدُ تَرْعُدُ لَهَا الْأَعْضَاءُ وَالْعُرُوقُ كُلُّهَا، فَإِذَا خَرَجَتْ وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ)).
فَتَخْرُجُ النُطْفَةُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وتُلَاقِي بُوَيْضَةَ الأُنْثَى وَتَسْتَقِرُّ فِي رَحِمِهَا المَحْفُوظِ بِعِظَامِ الحَوْضِ، حَيْثُ تَكُونُ هَذِه البوَيْضةُ المُلَقَّحَةُ بِالنُّطْفَةِ مُعَلَّقَةً بِجِدَارِ الرَّحِمِ مُحاطَةً فِيهِ بِسَائِلٍ يَحْفَظُهَا مِنْ أَيِّ ضَغْطٍ أَوْ اصْطِدامٍ قَدْ يُؤْذِيهَا، فَهيَ فِيهِ ضِمْنَ حِرْزٍ حَصِينٍ مُسْتَقِرٍّ مُتَمَكِّنٍ طِيلَةَ فَتْرَتِ الحَمْلِ، إِلَى أَنْ يَحِينَ وَقْتُ وِلَادَتِهِ.
وَالْقَرَارُ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرٌ مِنْ "قَرَّ يَقَرُّ"، أَيْ ثَبَتَ فِي مَكَانِهِ، وَقَدْ سُمِّيَ هُنَا الْمَكَانُ نَفْسُهُ بِهذا الاسْمِ. فمعنى القَرارِ هُوَ: المُسْتَقَرّ، وَهُوَ مَوْضِعُ الاسْتِقْرَارِ. وَالْمُرَادُ بِهَا الرَّحِمُ. وَقَدْ وُصِفَتْ بِـ "مَكِيْنٍ" لِمَكَانَةِ الَّتي هِيَ صِفَةٌ للمُسْتَقِرِّ فِيهَا، وَذَلِكَ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا عَلى الْمَجَازِ كَقولِكَ: "طريقٌ سَائِرٌ"، وَإِنَّمَا السَّائِرُ مَنْ فِيهِ، وَإِمَّا لِمَكَانَتِهَا فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهَا تَمَكَّنَتْ بِحَيْثُ هِيَ، وَأُحْرِزَتْ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: "مَكِينٍ"، أَيْ: ثَابِتٌ فِي مَكَانِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْتَلَعُ أَوْ يُنْتَزَعَ مِنْهُ.
إِذًا فَضَمِيرُ المَفْعُولِ بِهِ (الهاءُ) فِي قَوْلِهِ: "جَعَلْناهُ" عَائِدٌ إِلَى نَسْلِ آدَمَ ولَيسَ لآدَمَ، لِأَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمْ يَكُنْ نُطْفَةً فِي رَحِمٍ أَبَدًا، بَلْ جُبِلَ مِنْ طِينٍ ثُمَّ نُفِخَتِ الروحُ فيهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرَاخٍ. وَ "جَعَلْنَاهُ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مفعولُهُ الأَوَّلُ. وَيجوزُ في هَذَا الضَّمِيرِ أَنْ يَعُودَ للإِنسانِ، فَإِنْ أُريدَ بِهِ غَيْرُ آدَمَ فَوَاضِحٌ، وَيَكونُ خَلْقُهُ مِنْ سُلَالَةِ الطِّينِ خَلْقَ أَصْلِهِ، وَهُوَ آدَمُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيَكونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وإِنْ كَانَ المُرَادُ بِهِ آدَمَ فَيَكونُ الضَّمِيرُ عائدًا عَلَى نَسْلِهِ، أَيْ: جَعَلْنا نَسْلَهُ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضافٍ أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الإِنْسَانِ اللَّائقِ بِهِ ذَلِكَ، وَهُوَ نَسْلُ آدَمَ، فَلَفْظُ الإِنْسانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَالِحٌ لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَيَعُودُ كُلُّ شَيْءٍ لِمَا يَلِيقُ بِهِ. وَ "نُطْفَةً" مَفْعُولُهُ الثَّاني مَنْصُوبٌ بِهِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "نُطْفَةً"، وَ "قَرَارٍ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "مَكِينٍ" صِفَةٌ لِـ "قَرَارٍ" مَجْرُورَةٍ مِثْلَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْجَعْلِ. وَالجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ {خَلَقْنَا} مِنَ الآيةِ الَّتِي قَبْلَها، عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا للْقَسَمِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.