الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 62
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أَيْ: لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا ما تًطيقُ مِنَ العَمَلِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلَّي قائمًا، فَلْيُصَلِّ جَالِسًا، ومَنْ كانَ مريضًا أو مُسافِرً في رمضان، صَامَ في غيْرِهِ، قالَ تَعَالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} الآيةَ: 185، مِنْ سورةِ البقرة، وَهَكذا، فهوَ كقولِهِ مِنْ سُورةِ الحجِّ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} الآيةَ: 78. وَكَمَا قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما أخْرجَهُ البُخاريُّ وغيرُهُ مِنْ حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضيَ اللهُ عنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ)). صحيحُ البُخارِيِّ: (1/23، رقم: 39)، وسُنَنُ النَّسائيِّ: (8/121، رقم: 5034). وصحيحُ ابْنِ حِبَّان: (2/63، رقم: 351)، وسُننُ البَيْهَقِيِّ: (3/18، رقم 4518)، والشِّهابُ القُضاعيُّ: (2/104، رقم 976).
والْمُرَادُ مِنْ هَذهِ الخَبَرِ لَازِمُهُ، وَهُوَ قَطْعُ مَعْذِرَةِ الَّذِينَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ. وَتَيْسِيرُ الِاعْتِذَارِ عَلَى المُؤمنينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَجَبْرِ خَوَاطِرِ أَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَطِيعُوا الَّحَاقَ بِغَيْرَهُمْ مِنَ المُؤمنينَ السَّابقينِ لِعَجْزٍ فيهم أَوْ ضَعْفٍ أَوْ خَصَاصَةٍ، وَلِذلكَ قَالَ: "وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ" للتَّنْبِيهِ إِلَى إِحَاطَةُ عِلْمِهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، بِأَحْوَالِهِمْ وما يُظْهرونَ، وَنَوَايَاهُمْ وَمَا يُضْمِرُونَ.
قولُهُ: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} المُرادِ بالْكِتَابِ هُنَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْجِيلُ الْأَعْمَالِ مِنْ حَسَنَاتٍ وَسَيِّئَاتٍ، وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ عَلَيْهِ لِإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ، فإِنَّ عِلمَ اللهِ ـ تَبَارَكَ وتعالى، محيطٌ بما هو كائنٌ وما سوفَ يَكونُ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْفُوظٌ، لا يطَّلِعُ أَحَدٌ إلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يُطْلِعَهُ اللهُ على ما يَشَاءُ منْهُ، كما قالَ مِنْ سُورَةِ الجِنِّ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ..} الآيتانِ: (26 و 27)، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغْيِّرَ فيهِ شَيئًا زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا.
قَوْلُهُ: {يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} النُّطْقُ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِخراجِ ما في الكتابِ بأَمْرٍ مِنَ اللهِ ـ تباركَ وتعالى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النُّطْقُ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ فِيهِ ذَاتَ أَصْوَاتٍ منطوقةٍ يَسْمَعُها مَنْ أَرادَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يُسْمِعَهُ، فإنَّ قُدْرَتهُ ـ جلَّ وعَلا، مُطْلقةٌ لَا يَحُدُّها شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ الكَريمةُ مَسُوقةً لِمُؤَاخَذَةِ الْمُفَرِّطِينَ في أَمْرِهم، الْمُعْرِضِينَ عَنْ ربِّهِم، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فيها عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَمِيرُ في قولِهِ ـ تَعَالى، مِنَ الْآيةِ: 53، السَّابقةِ: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ}، وَقَوْلِهِ: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} الْآيةَ: 53، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فالظُّلْمُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ حِرْمَانُ العبدِ حَقَّهُ وَالِاعْتِدَاءُ علَيْهِ.
ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذا الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى عُمُومِ الْأَنْفُسِ مِنْ قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها" فَيَكُونُ قَوْلُهُ: "وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" مِنْ بَقِيَّةِ التَّذْيِيلِ، وَيكونُ المُرادُ بالظُّلْمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعْمَلًا فِي الانْتِقاصِ مِنَ الْحَقِّ كَما قَالَ ـ تَعَالَى، منْ سُورَةِ الْكَهْف: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} الآيةَ: 33، أَيْ: لمْ تُنْقِصِ الجَنَّتانِ مِنْ أُكُلِهِما شَيْئًا، فَتَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ المُباركةُ وَعْدًا لِفَرِيقٍ ووَعِيدًا لِفَرِيقٍ. وَهَذَا أَلْيَقُ الْوَجْهَيْنِ بالإعْجَازِ القُرآنيِّ.
فَالآيةُ تَذْيِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْوَالِ {الَّذِينَ هم مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}، لِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ مَا اقْتَضَى مُخَالَفَةَ الْمُشْرِكِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ المِلَّةِ وَالدِّينِ، وَذُكِرَ بَعْدَهُ مَا دَلَّ عَلَى تَقْوَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَشْيَةِ وَصِحَّةِ الْإِيمَانِ، وَالْبَذْلِ وَمُسَارَعَتِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ، ذُيِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، مَا طَلَبَ مِنَ الَّذِينَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ إِلَّا تَكَالِيفَ غَيرَ شاقَّةٍ عَلَيْهِمْ، وَبِأَنَّ اللهَ عَذَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ أَنَّ يَبْلُغُوا مَبْلَغَ مَنْ سَبَقَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، عُذْرًا يَقْتَضِي اعْتِبَارَ أَجْرِهِمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ منها إِذَا هُمْ بَذَلُوا غَايَةَ وُسْعِهِمْ في طلَبِ ذلكَ. فيكونُ كَقَولِهِ في الآيةَ: 91، مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ}. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالى: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الواوُ: استِئْنَافيَّةٌ. وَ "لا": نَافِيَةٌ لا عَمَلَ لَها. وَ "نُكَلِّف" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازم، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ)، يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَ "نَفْسًا" مَفْعُولُهُ الأَوَّلٌ مَنْصُوبٌ بِهِ. وَ "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ (أَداةُ حَصْرٍ). وَ "وُسْعَهَا" مَفْعُولُهُ الثَّاني مَنْصُوبٌ بِهِ، وهُوَ مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ. وَالجُمْلَةُ الفعْليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ للدَّلالةِ عَلى أَنَّ التَّكْليفَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ حُدُودِ الطَّاقاتِ والإِمْكانِيَّاتِ، فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} الواوُ: للعَطْفِ. و "لدينا" مبنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ مُتحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرفيَّةِ، مُتَعلِّقٌ بِخَبَرْ مُقَدَّمٍ تقديرُهُ: كائنٌ أو موجودٌ، وَهُوَ مُضافٌ، وَ "نَا" التَّعظيم هذه ضميرُ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَ "كِتَابٌ" مَرفوعٌ بالابْتِدَاءِ مُؤَخَّرٌ، وَهذه الْجُمْلَةُ الاسْميَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "ولَا نُكَلِّف" عَلى كَوْنِها مُسْتَأْنفةً فَلَيسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} يَنْطِقُ: فعلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ النّاصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودٌ على "كتاب". و "بِالْحَقِّ" الاءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَنْطِقُ"، أَوْ بِحَالٍ مِنْ فَاعِلِ "يَنْطِق"؛ أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهِ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، و "الحقِّ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذَهِ في محلِّ الرَّفعِ، صِفَةٌ لـ "كتاب".
قولُهُ: {وَهُمْ} الوَاوُ: للعَطْفِ، أَو للحالِ. وَ "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَفعِ بالابْتِداءِ خبرُهُ جملةُ "لا يُظْلَمُونَ". وهذِهِ الجملةُ الاسْميَّةُ معطوفةٌ عَلى الجُمْلَةِ التي قبلَها على كونِها في محلِّ الرَّفعِ، أَو هي في محلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ عُمومِ النَّفْسِ.
قولُهُ: {لَا يُظْلَمُونَ} لا: نافيةٌ، و "يُظلَمونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مبنيٌّ للمَجْهولِ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالنيابةِ عَنْ فاعِلِهِ. ، والجُمْلةُ الفعليَّةُ هذهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خبرُ المُبتَدأِ.