الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 78
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ} وُهُوَ: الضميرُ راجعٌ إلى ذاتِ الحَقِّ ـ تباركَ وَتَعَالَى، أَي: هُوَ وَحَدَهُ الذي أَنْشَأَ وَلَيْسَ أَصنامكم التي تعبدونَها مِنْ دُونِهِ، أَوْ أَحَدًا غيرهُ.
وَالْخِطَابُ بِـ "لَكُمْ" لِلْمُشْرِكِينَ فيكونُ الْتِفَاتًا، وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فيَكون الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ. والغايةُ هُيَ التَذْكِيرُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، وَذلكَ بالعَوْدَةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عظَمَتِهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، وَانْفِرَادِهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، بِالْأُلوهَةِ، وَمَا يَلِيقُ بِهَا مِنْ عظيمِ الصِّفاتِ.
وَالإنْشَاءُ: هُوَ الإيجادُ والإحداثُ والبَدْعُ في الخَلْقِ ابْتِداءً عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ خلَقَهُمْ عَلَيْهِ. يُقالُ: نَشَأَ فُلانٌ يَنْشَأُ نَشْأً ونُشُوءًا ونَشَاءً ونَشْأَةً ونَشَاءَةً إِذا حَيِيَ.
وَيقالُ أَيْضًا: نَشَأَ يَنْشَأُ نَشْأً ونُشُوءًا ونَشاءً: رَبَا وَشَبَّ، وَنَشَأَ الرَّجُلُ في بَنِي فُلانٍ نَشْأً ونُشُوءًا، إِذَا شَبَّ وَتَرَعْرَعَ فِيهِم.
فَقَدِ انْتَقَلَ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِفُلْكِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِقَولِهِ في الآيةِ: 22، السابقةِ: {عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} إِلَى الِاعْتِبَارِ بعدَها بِقَصَصِ أَقْوَامِ المُرْسَلينَ، إِلَى قَوْلِهِ هُنَا "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبصارَ والأَفئِدَةَ". فَالْجُمْلَةُ هَذِهِ إِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً} الْآيةَ: 21، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ، وَيكونُ الْغَرَضُ وَاحِدًا في الآيَتَيْنِ وَمَا بَيْنَهُمَا انْتِقَالَاتٌ. أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ وذلكَ للرُّجُوعِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظَمَةِ الخَالِقِ، وَالِامْتِنَانِ عَلَى الخلْقِ بمَا وَهَبَهُم مِنْ عَظِيمِ الإِنْعَامِ والإكْرامِ.
وَفِي هَذَا الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ، ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى الْغَرَضِ مِنْهَا جَمِيعًا، تَجْدِيدٌ لِنَشَاطِ الذِّهْنِ، وَتَحْفيزٌ عَلى الْإِصْغَاءِ إِلَى ما يُقالُ مِنْ كَلَامٍ، وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ فِي خُطَبِهِمْ، سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ بـ : قِرَى الْأَرْوَاحِ. وَفيهِ بَيانٌ لأَحَقِيَّتِهِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤهُ العُلَى، بالْعِبَادَةِ الخالِصَةِ، وَذَلكِ بِمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسَ مِنْ عَظِيمِ النِّعَمِ وَبَالِغِ الكَرَمِ، وَمِنْ هَذِهِ النِّعَم العظيمةِ أَنْهُ أَنْشَأَ لَهُمُ السَّمعَ، الَّذي يُدْرِكونَ بِهِ مَا حَوْلَهُم، وَيُجَنِّبُهُمْ الأَخْطارَ الَّتي قَدْ تُؤَدِّي إِلَى هَلَاكِهِمْ.
قولُهُ: {السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} أَفردَ ـ سُبحانهٌ، السَّمعَ لِأَنَّهُ في الأَصْلِ مَصْدَرٌ، فَقد جَرَى عَلَى الْأَصْلِ فِي إِفْرَادِ الْمَصْدَرِ، وَلِأَنَّ المَسْموعَ واحِدٌ وَهُوَ الصَّوتُ. بينما جَمَعَ الْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَصْحَابِهَا وَمُتَعَلِّقَاتِها، فَإِنَّ الْبَصَرُ يَتَعَلَّقُ بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَالأفئدَةَ وهي الْعُقُولُ تُدْرِكُ أَجْنَاسًا وَأَنْوَاعًا وأَلْوَانًا مِنَ المَوجوداتِ، وبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَقَدْ جُمِعَ البَصَرُ على أَبْصَارٍ وَالفُؤادُ على أَفئدَةٍ، والهَُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} أَيْ: والحَالُ أَنَّ شُكْرَكُمْ عَلَى هَذِهِ النِّعمِ العظيمةِ قَلِيلٌ. والمُرادِ بالشُّكْرِ التَّوْحِيدُ إذا قلْنا إِنَّ الْخِطَابَ مُتَوَجَّهٌ بِهِ إلى الْمُشْرِكِينَ. وَإِذا كَانَ الْمُرادَ بِالْخِطَابِ جَمِيعُ النَّاسِ فَإنَّ الشُّكْرُ عَامٌّ فِيشْمَلُ كُلِّ شُكْرٍ عَلَى نِعْمَةٍ أَنْعَمَ الهَُ بها عَلى الخلْقِ، وَبِهذا يكونُ الشُّكْرُ قَلِيلًا لِقِلَّةِ عَدَدِ الشَّاكِرِينَ بِالنِّسْبَةِ لعدَدَ المَخلوقاتِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ مُشْرِكُونَ كَمَا قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ الْأَعْرَاف: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ} الآيةَ: 17، وَإِذا كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فَإنَّ الشُّكْرَ عَامٌّ، وَيكونُ المُرادُ مِنْ تَقْلِيلِهِ التَّحْرِيضَ عَلَى نَبْذِ الشِّرْكِ والِاسْتِزَادَةِ مِنَ الشُّكْرِ.
قولُهُ تَعَالى: {وَهُوَ الَّذِي} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "هُوَ" ضميرٌ منفصِلٌ مَبنِيٌّ على الفتْحِ في مَحلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "الذي" اسمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وَالْجُمْلة مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} أَنْشَأَ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ، وَفَاعِلُهُ مَسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يعودُ على اللهِ ـ تَعَالى. و "لَكُمُ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْشَأَ". و "السَّمْعَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ" حرفُ عَطْفٍ ومَعْطُوفَاتٌ عَلَى "السٍّمْعَ" مَنْصوباتٌ مِثْلُهُ، وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذي" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {قَلِيلًا مَا} قَلِيلًا: مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، هُوَ المَفْعُولُ الْمُطْلَقُ حَقِيقَةً، والتَّقْديرُ: شُكْرًا قَلِيلًا. و "مَا" زَائِدَةٌ، بِمَعْنَى حَقًا، وقد زِيدَتْ لِتَأْكِيدِ القِلَّةِ المُفَادَةِ بالتَّنْكيرِ بِـ "قليلًا".
قولُهُ: {تَشْكُرُون}: فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ، والتقديرُ: وَهُوَ الَّذي أَنْشَأَ لَكُمْ هَذِهِ الأَعْضَاءَ، حَالَةَ كَوْنِكُمْ شَاكِرينَ لَهُ شُكْرًا قَلِيلًا.