الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 73
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الخِطابُ للنَّبيِّ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، أَيْ: وَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا تَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ الإسلامِ، دينَ الحقِّ والخَيْرِ وَالهُدَى، وَالسَّبِيلِ القَوِيمِ المُسْتَقِيمِ، المُوصِلِ إِلى جَنَّةِ عَرْضُها السَّمواتُ الأَرضُ، فيها مِنَ النعيمِ ما لَا عَيْنٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعتْ، ولَا خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
والصِّراطُ: لُغَةٌ في "السِّرَاطِ"، وَهُوَ الطَّريقُ السَّهْلُ الواضِحُ، مِنْ سَرِطَ الطَّعَامَ سَرَطًا وَسَرَطانًا إِذا بَلِعَهُ، وَاسْتَرَطَهُ، وَ "ازْدَرَدَهُ" بِمَعْنًى: أَيْ ابْتَلَعَهُ، فهمَا بِكَسْرِ عَيْنِ الفِعْلِ، وَلَا يَجُوزُ: "سَرَطَ" وَلَا "بَلَعَ" بِالفَتْحِ فيهِا. وَانْسَرَطَ الطَّعامُ في الحَلْقِ: سَارَ فِيهِ بِسُهولةٍ وَيُسْرٍ. وَ "الْمِسْرَطُ" وَ "المَسْرَطُ" هُوَ البُلْعُومُ.
والمُستقيمُ: هوَ أَقصَرُ مَسافةٍ بينَ نُقْطتَيْنِ، فَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِدينَ اللهِ الَّذي أَنْزَلَهَ عَلَى سَيِّدِنا رَسُولِ اللهِ مُحمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى أَهْلِ بيْتِهِ، وَأَصْحابِهِ، ومَنْ والَاهُ، هُوَ أَقرَبُ السُّبُلِ المُوصِلَةِ إِلى رِضْوَانِ اللهِ رَبِّ العالمينَ، وَجَنَّتِّهِ الَّتي أَعَدَّها ـ سُبْحانَهَ وَتَعَالَى، لإِكْرامِ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الْمُتَّقينَ، بجَنَّةِ الرِّضوانِ يَوْمَ الدِّينِ.
وَإِطْلَاقُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَى الدِّينِ الإسلاميِّ الحنيفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُوصِّلٌ إِلَى مَا يَتَطَلَّبُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مِنَ النَّجَاةِ في الآخرةِ، وَحُصُولِ الْخَيْرِ لَهُ في الآخِرةِ والأُولى، فَكَمَا أَنَّ السَّائِرَ إِلَى طَلْبَتِهِ لَا يَبْلُغُهَا إِلَّا بِطَرِيقٍ، وَلَا يَكُونُ بُلُوغُهُ مَضْمُونًا مَيْسُورًا إِلَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُسْتَقِيمًا، فكَذلكَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى دينِ الْإِسْلَامِ، إِنَّما دَعَاهُمْ إِلَى السَّيْرِ فِي طَرِيقٍ مُوصِلٍ إلى الفوزِ برضوانِ اللهِ ـ تَعَالى، والنَّجاةِ البِلَاءِ والعَنَاءِ والعَذابِ. وَقدَ أَكَّدَ ذلكَ بِـ "إِنَّ"، وَاللَّامِ المُزَحلقةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَسُوقٌ لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُنْكِرِينَ المُعْتَرِضِينَ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ الكَريمُ ـ عليْهِ أفضَلُ الصَّلاةِ وأكملُ التَّسْليمِ، وعلى آلِهِ وأصْحابِهِ أَجْمَعينَ.
فقد أَعْقِبَ ـ عَزَّ وجَلَّ، تَنْزِيهَ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، عَمَّا افْتَرُوهُ عَلَيْهِ، بِتَنْزِيهِ دينِ الْإِسْلَامِ الذي جاءَ بِهِ عَمَّا وَسَمُوهُ بِهِ مِنَ الْأَبَاطِيلِ، وَذلكَ بِإِثْبَاتِ ضِدِّ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ: طَرِيقٌ لَا الْتِوَاءَ فِيهِ وَلَا عَقَبَاتٍ. فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينِ اعْتَقَدُوا خِلَافَ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" قَالَ: مَا فِيهِ مِنْ عِوَجٍ.
ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: ((أَسْلِمْ)). فَتَصَعَّبَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَبُرَ عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ كُنْتَ فِي طَرِيقٍ وَعْرٍ وَعْثٍ، فَلَقِيتَ رَجُلًا تَعْرِفُ وَجْهَهُ وَتَعْرِفُ نَسَبَهُ، فَدَعَاكَ إِلَى طَرِيقٍ وَاسِعٍ سَهْلٍ، أَكُنْتَ تَتْبَعُهُ؟)). قَالَ: نَعَم.
قَالَ ـ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ: ((فَوَالَّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّكَ لَفِي أَوْعَرَ مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ، لَوْ كُنْتَ فِيهِ. وَإِنِّي لَأَدْعُوكَ إِلَى أَسْهَل مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَوْ دُعِيتَ إِلَيْهِ)).
وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: ((أَسْلِمْ)). فَصَعَّدَهُ ذَلِكَ.
فَقَالَ لَهُ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَرَأَيْتَ فَتَيَيْكَ أَحَدُهُمَا إِنْ حَدَّثَ صَدَقَكَ، وَإِنْ أَمَّنْتَهُ أَدَّى إِلَيْكَ، وَالْآخَرُ إِنْ حَدَّثَ كَذَبَكَ، وَإِنِ ائْتَمَنْتَهُ خَانَكَ؟)). قَالَ: بَلَى، فَتَاي الَّذِي إِذا حَدَّثنِي صَدَقَني، وَإِذَا أَمَّنْتُهُ أَدَّى إِلَيَّ.
قَالَ نَبِيُّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَذَاكُمُ أَنْتُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ)).
قولُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ. و "إِنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتّوْكيدِ. وَكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُا، وخبرُها جملةُ "تَدْعُوهُم"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مَعَ اسْمِها وخبرِها جملةٌ مُسْتَأْنَفةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} اللَّامُ: المُزحلَقَةُ للتَّوكيدِ (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ). وَ "تَدْعُوهُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لِثِقَلِها عَلَى الواوِ، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَ "هم" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. و "إِلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَدْعُوهُمْ"، وَ "صِرَاطٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَ "مُسْتَقِيمٍ" صِفةُ "صِرَاطٍ" مَجْرورةٌ مِثْلُهُ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ".