الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 63
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} بَلْ: للإِضْرَابِ والانْتِقَالِ إِلَى مَا هُوَ أَغْرَبُ مِمَّا سَبَقَ أَنْ ذُكِرِ عَنِ المُشْركينَ، فَهُذَا وَصْفُ غَمْرَةٍ أُخْرَى انْغَمَسَوا فِيهَا. وَهاءُ الضَّميرُ مِنْ "قلوبُهُم" تَعُودُ عَلى المُشْرِكينَ، قالَ مُقاتِلٍ بْنُ سُلَيْمانَ: يَعْنَي الكُفَّارَ. وَ "فِي غَمْرَةٍ": في غَفْلَةٍ. تَفْسيرُ مُقاتلٍ: (2/31 ب).
فَإِنَّ المُشْركينَ فِي غَمْرَةٍ غَمَرَتْ قُلُوبَهُمْ، وَأَبْعَدَتْهَا عَنْ أَنْ تَتَخَلَّقَ بِخُلُقِ المُؤْمِنِينَ: {الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} لِأَنَّ أَعْمَالَهُم عَلى الضِّدِّ والنَّقيضِ مِنْ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ، فإنَّها تُنَاسِبُ كُفْرَهُمْ، وَ {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}، فَحَرْفُ "مِنْ" فِي قَوْلِهِ: "مِنْ هَذَا" يُوهِمُ الْبَدَلِيَّةَ، أَيْ فِي غَمْرَةِ تَبَاعُدِهِمْ عَنْ هَذَا، وَالْإِشَارَةُ بِـ "هَذَا" إِلَى القُرْآنِ الكَريمِ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "بَلْ قُلُوبُهُمْ في غَفْلةٍ مِنْ هَذا"، قَالَ: فِي عَمَى مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ. وَقَالَهُ مُقاتِلٌ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنُهُ. رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ: (18/35).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا"، قَالَ: يَعْنِي بالغَمْرَةِ الْكَفْرَ وَالشَّكَّ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاق، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا"، قَالَ: فِي غَفْلَةٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُؤْمنِينَ. أَيْ: ذِكْرُ اللهِ، {الَّذينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} الْآيَةَ: 57، مِنْ سورةِ الْمُؤْمِنُونَ وَالَّذينَ، وَالَّذينَ، ثُمَّ قَالَ للْكَافِرِينَ "بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُم أَعْمَالٌ" مِنْ دُونِ الْأَعْمَالِ الَّتِي سَمَّى: الَّذينَ، وَالَّذينَ، وَالَّذينَ.
وَقِيلَ الإِشارةُ بـ "هذا" هِيَ إِلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى، وهو أصْدَقُ القائلينَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ لَهَا سابِقُونَ} الْمُؤْمِنُونَ: (57 ـ 61).
قولُهُ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} هَذِهِ اللَّامُ في "لَهُمْ" هِيَ لِلِاخْتِصَاصِ. وَإنَّما قُدِّمَ الْمَجْرُورِ بِهَا عَلَى الْمَبْدَأِ لِقَصْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ، أَيْ: لَهُمْ أَعْمَالٌ مِمَّا فيهِ سَخَطُ اللهِ ـ عَزَّ وجلَّ، لَا يَعْمَلُونَ غَيْرَهَا مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْإِيمَانِ الْخَيِّرَةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ "دُونِ"، فَإِنَّها تَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَتِهم لِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ المُتَّقينَ، لأَنَّهُ لَيْسُوا أَهْلًا لِلتَّحَلِّي بِمِثْلِ كَرِيمِ أَخلاقِهِم، والتَأَسِّي بحُسْنِ سِيرَتِهِم، وَقَويمِ سُلُوكِهِم، وَقَوْلُهُ: "وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ" يُبَيِّنُ هَذَا، أَيْ: وَإنَّ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا هِيَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَهَذَا كَقَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْخَارِجِيِّ فِي مَدْحِ عُرْوَةَ بْنِ زَيْدِ الْخَيْلِ:
يَا أَيُّهَا الْمُتَمَنِّي أَنْ يَكُونَ فَتًى ...... مِثْلَ ابْنِ زَيْدٍ لَقَدْ أَخْلَى لَكَ السُّبُلَا
أَعْدِدْ فَضَائِلَ أَخْلَاقٍ عُدِدْنَ لَهُ ..... هَلْ سَبَّ مِنْ أَحَدٍ أَوْ سُبَّ أَوْ بَخِلَا
إِنْ تُنْفِقِ الْمَالَ أَوْ تَكْلَفْ مَسَاعِيَهُ .... يُشْفِقْ عَلَيْكَ وَتَفْعَلْ دُونَ مَا فُعِلَا
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: و "وَلَهُم أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ"، يَقُول: أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ دُونَ الشِّرْكِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، "وَلَهُم أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ"، قَالَ: خَطَايَا.
قولُهُ: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} جِيءَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَةِ مُدَاوَمَتِهِم عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ، واسْتِمْرارِهم فيها، وَثَبَاتِهِمْ عَلَيْهَا. فإِنَّ وَصْفَ "أَعْمالٌ" بِجُمْلَةِ "هُمْ لَهَا عامِلُونَ" لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَيْهَا، فَلَا يُقْلِعُونَ عَنْهَا، لِكَثْرَةِ انْغِمَاسِهِمْ فِيهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ "لَهَا" عَلَى "عامِلُونَ" لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ لِقَصْرِ الْقَلْبِ، أَيْ: لَا يَعْمَلُونَ غَيْرَهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي دُعُوا إِلَى أَدائها وَالقِيامِ بِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلرِّعَايَةِ الْفَاصِلَةِ، لِأَنَّ الْقَصْرَ قَدْ تَمَّ مِنْ قَبْلُ بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ على المُسْنَدِ كما تقدَّمَ بيانُهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "هُمْ لَهَا عَامِلُونَ" قَالَ: لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} بَلْ: حَرْفُ ابْتِدَاءٍ وإِضْرَابٍ لِلِانْتِقَالِ إِلَى أَحْوَالِ الكُفَّارِ المَحْكِيَّةِ فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ ..} الخ. وَالْجُمَلِ الَّتي بَيْنَهُمَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}، كلُّها اعْتِرَاضٌ في خِلَالِ الكَلَامِ، المُتَعَلِّقِ بِالْكُفَّارِ. و "قُلُوبُهُمْ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذَكِّرِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ، و "غَمْرَةٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "مِنْ" حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "غَمْرَةٍ"؛ أَيْ: كَائِنَةٍ مِنْ هَذَا الَّذي وُصِفَ بِهِ المُؤْمِنُونَ، و "هَذَا" الهاءُ للتَّنْبيهِ، و "ذا" اسْمُ إشارةٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "لَهُمْ" اللَّامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ: للجمعِ المُذَكَّرِ. و "أَعْمَالٌ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ أُولَى لِـ "أَعْمَالٌ"، و "دُونِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، و "ذَلِكَ" ذا: اسْمُ إِشَارَةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والكافُ: للخِطابِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ الَّتي قَبْلَهَا على كونِها مُسْتَأْنَفةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} هُمْ: ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "لَهَا" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "عَامِلُونَ"، وَ "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. و "عَامِلُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ وعلامةُ رَفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جَمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنَّونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ؛ وهذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِـ "أَعْمَالٌ". أَيْ: مُسْتَمِرُّونَ عَلَيْهَا، ومَعنى "مِنْ دُونَ ذَلِكَ": مُتَجَاوِزَةٌ مُتَخَطِّيَةٌ لِمَا وُصِفَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ.