الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 47
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} هُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَلَأِ لِبَعْضِهِمُ الآخرِ كَانُوا قَدْ تَرَاضُوا عَلَيْهِ فنُسِبَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَلَيْسَ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ، الَّذي كَانَ يُصْغي لِرَأْيِهِمْ وَمَشُورَتِهِمْ، وَكَانَ يَقَوْل فِيما حَكَاهُ اللهُ ـ تَعَالَى، عنْهُ بِقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ القَصَصِ: {وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي} الْآيةَ: 38، فَقدْ كَانَ يَحْسِبُ نَفْسَهُ إِلاهًا ابْنَ الْآلِهَةِ فِي صُورَةِ البَشَرٌ. وَالفاءُ: للتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: {فَاسْتَكْبَرُوا} مِنَ الآيةِ الَّتي قبلَها، أَيِ: اسْتَكْبَرَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ عَنِ اتِّبَاعِ مُوسَى وَهَارُونَ ـ علَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فَقد أَفْصَحُوا عَنْ سَبَبِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنْ اتِّبَاعِهِما بِقَوْلِهِمْ: "أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ"، فإنَّ السَّمعَ والطَّاعةِ وَالتَّبَعِيَّةَ مِنْ معاني العُبودِيَّةِ. وقدْ كانَ بنو إِسْرائيلَ ـ قَوْمُ مُوسَى وَهَارُونَ، مِنْ أَتْباعِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَكانُوا لَهُمْ خَدَمًا، فاسْتَهْجَنُوا أَنْ يتَّبِعُوهُما ـ وَهُمُ السَّادةُ، وَهُمَا مِنْ قومٍ خَدَم لَّهِمْ، واسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقَالوا: "أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ". فالاسْتِفْهَامُ هُنَا إِنْكَارِيٌّ، أَيْ: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِمَا وَهُمَا مِثْلُنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَلَيْسَا بِأَهْلٍ لِأَنْ يَكُونَا ابْنَيْنِ لِلْآلِهَةِ، لِأَنَّهُمَا جَاءَا بِتَكْذِيبِ إِلَهِيَّةِ الْآلِهَةِ، فَقد كَانَ مَلَأُ فِرْعَوْنَ يَتَطَلَّبُونَ لِصِحَّةِ دعوى التَّكْلِيفِ مِنَ الله بحملِ رِسَالَتِهِ إِلَى خلقِهِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مُبَايِنًا لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، مُتَمَيِّزًا عَلَيْهِمْ، وكَانُوا يَتَخَيَّلُونَ آلِهَتَهُمْ أَجْنَاسًا وأشْكالًا غَرِيبَةً، فَيُجَسِّدوهُ في جِسْمِ بَشَرٍ وَرَأْسِ بَقَرَةٍ حينًا، وبرَأْسِ طَائِرٍ، أَوْ ابْنِ آوَى حينًا آخَرَ، أَوْ بِجَسَدِ أَسَدٍ وَرَأْسِ بَشَرٍ، أمَّا العقولُ والنُّفوسُ فما كانَ لها وَزْنٌ عندَهُمْ، وذَلِكَ هوَ الضَّلالُ المُبينُ، كما كانَ هذا حالَ الأقدمينَ.
وَفي وصْفهِمْ لَموسَى وهارونَ بِقَوْلِهِم: "مِثْلِنَا" طَعْنٌ فِي رِسَالَتِهِمَا مِنْ جَانِبِ حَالِهِمَا الذَّاتِيِّ ومُشابهَتِهِما لَهُمْ في صفاتِهِمْ الإنسانيَّةِ الظاهِرَيَّةِ، ثُمَّ أُعْقِبَ ذلكَ بِطَعْنٍ آخَرَ مِنْ جِهَةِ مَنْشَئِهِمَا، وَقَبِيلِهِمَا الَّذي يَنْتَمِيَانِ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: "وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ". أَيْ وَهُمْ مِنْ فَرِيقٍ هُمْ عِبَادٌ لَنَا وَأَحَطُّ مِنَّا فَكَيْفَ يقوداننا ويَسُودَانِ عَلَيْنَا!
قولُهُ: {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أَيْ: هُمْ لَنَا تابعونَ خَاضِعونَ، وَلِأَمْرِنا مُطِيعونَ. وَقَدْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ خَوَلًا لِلْأَقْباطِ ـ قومِ فِرْعونَ وَخَدَمًا لَهُمْ، وَهَذا ظاهِرٌ في حوارِ سَيِّدِنَا مُوسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، معَ فرعونَ حينَ قَالَ لهُ: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِين} الآيةَ: 18، مِنْ سورةِ الشُّعراءِ، فأجابَهُ مُوسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ} الآيةَ: 22، مِنْ السُّورةِ ذاتِها.
قولُهُ تَعَالى: {فَقَالُوا} الفاءُ: عَاطِفَةٌ. وَ "قَالُوا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعَةِ، وَواوُ الجَماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفريقِ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {اسْتَكْبَرُوا} فَلَيسَ لَهَا محلٌّ مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} الهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهَامِ الإِنْكَارِيِّ، و "نُؤْمِنُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ) يَعُودُ إِلَى {فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}. و "لِبَشَرَيْنِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُؤْمِنُ"، وَهِيَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ "نُؤْمِنُ"، يُقَالُ لِلَّذِي يُصَدِّقُ الْمُخْبِرَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ: آمَنَ لَهُ، فَيُعَدَّى فِعْلُ (آمَنَ) بِاللَّامِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ صَدَّقَ بِالْخَبَرِ لِأَجْلِ الْمُخْبِرِ، أَيْ لِأَجْلِ ثِقَتِهِ فِي نَفْسِهِ. فَأَصْلُ هَذِهِ اللَّامِ أَنَّها لِلْأَجْلِ وَالْعِلَّةِ، كَقَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ العَنْكَبُوتِ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} الآيةَ: 26، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الدُّخان: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} الآيةَ: 21. أَمَّا إِذَا عُلِّقَ بِفِعْلِ الْإِيمَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَبَرِ فإِنَّكَ تُعَدّيهِ بِالْبَاءِ فَتَقولُ: آمَنْتُ بِأَنَّ اللهَ وَاحِدٌ. وَبِهَذَا يَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ: آمَنْتُ بِسَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَقَوْلِكَ: آمَنْتُ لَهُ. فَمَعْنَى الْأَوَّلِ: أَنَّكَ صَدَّقْتَ شَيْئًا. وَلِذَلِكَ لَا تَقولُ: آمَنْتُ للهِ، وَإِنَّمَا تَقولُ: آمَنْتُ بِاللهِ. وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، وَآمَنْتُ لِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَيْ صدَّقْتَ بِخَبَرِهُ لأَجْلَ يقينِكَ بِصِدْقِهِ. فَمَعْنَى الْأَوَّلِ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِهِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّكَ صَدَّقْتَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ. وَ "بَشَرَيْنِ" مَجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ مُثَنَّى. و "مِثْلِنَا" صِفَةٌ لِـ "بَشَرَيْنِ" مجرورةٌ مثْلُهُ، وهوَ مُضافٌ، و "نا" ضميرُ جَماعةِ المُتَكلِّمينَ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَهُوَ اسْمٌ كَ "غَيْر" فِي أَنَّهُ يُوصَفُ بِهِمَا الاثْنَانِ والجَمْعُ والمُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ، وَأَمَّا إِفْرَادُ "مِثْلِنا" فَلِأَنَّه يَجْري مَجْرَى المَصَادِرِ فِي الإِفْرَادِ وَالتَّذِكيرِ، وَلَا يُؤَنَّثُ أَصْلًا، وَقَدْ يُطَابِقُ مَا هُوَ لَهُ تَثْنِيَةً كَقَوْلِهِ تَعالى، مِنْ سورةِ آلِ عِمْرانَ: {مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} الآيةَ: 13، وَجَمْعًا كَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ سَيِّدِنا (محمَّد): {ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} الآيةَ: 38، وَقِيلَ: أُريدَ المُمَاثَلَةُ فِي البَشَرِيَّةِ لَا الكَمْيَّةِ، وَقِيلَ: اكْتُفَى بِالْواحِدِ عَنِ الإثْنيْن كَمَا قَالَ ـ تَعَالى، فِي الآيَةِ: 15، مِنْ سُورَةِ (يس): {قالوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا}، وَقَدْ يُطابِقُ، وَمِنْهْ هَذِهِ الآيَةُ. وَ "البَشَرُ" يَقَعُ عَلَى الوَاحِدِ وَالمُثَنَّى والجَمْعِ، والمُذَكَّرِ وَالمُؤَنَّثِ. وَالجُمْلَةُ الفَعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قالوا".
قولُهُ: {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} الوَاوُ: حالِيَّةٌ، و "قَوْمُهُمَا" مَرفوعٌ بالابْتٍداءِ مَضَافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ الجمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "لَنَا" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخبرِ "عَابِدُونَ"، و "نا" ضميرُ جماعةِ المُتكلِّمِينَ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنِيٌّ على السَّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "عَابِدُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ، مرفوعٌ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الإسْميَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِن فَاعِلِ "نُؤْمِنُ".