الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 64
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} حتَّى: حرفُ ابتداءٍ، وليسَتِ العاطفةَ أوْ للغايةِ والجَرِّ التي تنصِبُ بـ "أَنْ" بَعْدَهَا، فإنَّ "حَتَّى" الِابْتِدَائِيَّةَ يَكُونُ مَا بَعْدَهَا ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، فَلَيْسَ الدَّالُّ عَلَى الْغَايَةِ لَفْظًا مُفْرَدًا كَمَا هُوَ شَأْنُ الْجَارَّةِ وَالْعَاطِفَةِ، بَلْ هِيَ غَايَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ وَالْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ فِي مَعْنَى التَّفْرِيعِ، وَبِهَذِهِ الْغَايَةِ صَارَ الْكَلَامُ هنا تَهْدِيدًا للمُشركينَ بِعَذَابٍ يَحِلُّ بِهِمْ قريبًا فيَجْأَرُونَ وَلَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ المُرادَ بهذا العَذَابِ هو عذابُ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ بعدَ ذلكَ: {وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآيةَ: 75، الآتِيَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المباركةِ، وَقدْ كانَ ذَلِكَ فِي مَوْقِعَةِ بَدْرٍ ـ كَمَا قالَهُ أَئمَّةُ المُفَسِّرينَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم.
فَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ جَلَّ جَلَالُهُ: "حَتَّى إِذا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ" الْآيَةَ، قَالَ: هُمْ أَهْلُ مَعْركةِ بَدْرٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "حَتَّى إِذا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ" قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ قَتَلَ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "حَتَّى إِذا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ" قَالَ: بِالسُّيُوفِ يَوْمَ بَدْرٍ. و "إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ" قَالَ: الَّذينَ بِمَكَّةَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "حَتَّى إِذا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ" قَالَ: بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "حَتَّى إِذا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ" قَالَ: مُسْتَكْبِرِيهِمْ.
قوْلُهُ: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يَجْأَرونَ: يَصْرُخونَ، يَسْتَغِيثُونَ، يَتَضَرَّعونَ. وَجَأَرَ العَبْدُ إِلَى مَولاهُ ـ عَزَّ وجَلَّ: إِذَا تَضَرَّعَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ، واسْتَغاثَ بِهُ.
فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ ـ تَعالى: "إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ" قَالَ: يَسْتَغِيثُونَ.
وَالجُؤَارُ مِثْلُ الخُوَارِ، وهو مِنْ "جَأَرَ" الثَّوْرُ يَجْأَرُ إِذَا صَاحَ وَخَارَ. وَالجُؤَارُ: الصُّرَاخُ مُطْلَقًا. قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ يَصِفُ رَاهِبًا:
يُراوِحُ مِنْ صَلَواتِ المَلِيْـــ ............... ــــكِ طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارَا
وَغَيْثٌ جُؤَرٌ، أَيْ: غَزيرٌ كَثِيرُ المَطَرِ.
قولُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} حَتَّى: حَرْفُ ابْتِداءٍ يُبْدَأُ الكَلَامُ بِهَا. وَقَالَ مَكِيٌّ: إِنَّهَا غَايَةٌ لِـ {عَامِلُونَ} فَإِنَّهُ قَالَ: أَيْ: لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ أَعْمَالُ مِنَ الشَّرِّ دُونَ أَعْمَالِ أَهْلِ البِرِّ، لَهَا عَامِلُونَ، إِلَى أَنْ يَأْخُذَ اللهُ أَهْلَ النِّعْمَةِ وَالبَطَرِ مِنْهُمْ، إِذَا هُم يَضِجُّونَ. فَهِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ حَرْفُ جَرٍّ. قَالَ الحُوفِيُّ: "حَتّى" غَايَةٌ، وَهِيَ عَاطِفَةٌ، وَ "إِذَا" الثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ جَوَابِ الأُولَى، وَمَعْنَى الكَلَامِ عَامِلٌ فِي "إِذَا" وَالْمَعْنَى جَأَرُوا. والعامِلُ فِيها "أَخَذْنا". وَهُوَ كَلامٌ غامِضٌ غَيْرُ ظاهِرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَ "حَتَّى" حَرْفُ ابْتِداءٍ لَا غَيْرُ. وَ "إِذَا" وَ "إذا" الثانِيَةُ الَّتي هِيَ جَوَابٌ تَمْنَعَانِ مِنْ أَنْ تَكونَ "حَتَّى" غَايَةً لِـ {عامِلُونَ}. يَعْنِي أَنَّ الجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ وَجَوَابَها لَا يَظْهَرُ أَنْ تَكونَ غَايَةً لِـ {عَامِلون}. وَهَذَا هُوَ ظاهِرُ كَلَامِهِ. وَ "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ مُتَضَمِّنٌ معنى الشَّرطِ، وهو خَافِضٌ لِشَرْطِهِ، مَنْصُوبٌ بِجَوَابِهِ، وَجوابُهُ ـ هُنَا: "يَجْأَرُونَ"، وهو مبنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِالْجَوابِ. و "أَخَذْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ على الفاعِلِيَّةِ. و "مُتْرَفِيهِمْ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، والميمُ: علامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "بِالْعَذَابِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَخَذْنَا"، وَ "الْعَذَابِ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِإِضَافَةِ "إِذَا" إِلَيْهَا، عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَّهَا. وَالجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بَعْدَهَا هِيَ غَايةٌ لِمَا قَبْلَهَا.
قولُهُ: {إِذَا هُمْ} إِذَا: فُجَائِيَّةٌ، قَائِمَةٌ مَقَامَ فَاءِ الجَزَاءِ فِي الرَّبْطِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَهُمْ لَا يَجْأَرُونَ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ: وَتَخْلُفُ الفَاءُ إِذَا المُفَاجَأَةِ. و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. والخَبَرُ جملةُ "يَجْأَرونَ" وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جَوَابُ "إِذَا" الأولى لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" معَ شَرْطِها وَجَوَابِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. وَقِيلَ: "حَتَّى" حَرْفُ جَرٍّ وَغَايَةٍ. وَجُمْلَةُ "إِذَا" الشَّرْطِيَّةِ: فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِهَا، وَالتَّقْديرُ: لَا يَزَالُونَ يَعْمَلُونَ أَعْمَالَهُمُ الخَبيثَةَ، إِلى مُفَاجَأَةِ جُؤَارِهِمْ حينَ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ الشَّديدِ.
قولُهُ: {يَجْأَرُون} فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ الْمُبتَدَأِ "هُمْ".